top of page

ملمح من الثقافات المستوطنة في السودان

تاريخ التحديث: ١ نوفمبر ٢٠٢٣


أحمد سليمان

ملمح عن الثقافة المتوطنة في السودان

أحمد سليمان أبكر/ السودان

بدأ الإنسان حياته متفاعلًا مع البيئة الطبيعة ضمن النسق الإيكولوجي، متسلحًا بسلاح العقل، واكتسب العلوم والمعارف والفكر من خلال تجاربه وتفاعله اليومي، فأسس الأسرة، وبنى المدن وأنشأ المجتمع ببنائه وأنساقه وتنظيمه الاجتماعي، وكل هذا بلوره في الثقافة التي وظّف وكيّف بها البيئة الطبيعية والاجتماعية وفقًا لنفسه وحاجاته البيولوجية والنفسية والوجدانية والاقتصادية والاجتماعية. ولما كانت الثقافة بهذا القدر من الأهمية والشمول، فسنتناول في هذا المقال (السودان ما بين الثقافة المتوطنة والثقافة العابرة).

مفهوم الثقافة:

الثقافة هي عبارة عن مجموعة من القيم والعادات والتقاليد والأخلاق وطرائق التفكير المعرفي والجمالي المميز لمجتمع ما عن بقية المجتمعات، كما تعد أيضًا مجموعة من المعاني والرموز والإشعارات التي ينسجها الأفراد نتيجة تواصلهم مع بعضهم بعضًا؛ وهذا يعني أن الثقافة هي منظومة متنوعة متكاملة ترسم معالم هوية المجتمع عن طريق قيمها وصورتها الحضارية لتحدد مكانتها في مصاف الأمم.

كينونة الثقافة السودانية:

بدأ السودان بوصفه مجموعة أقاليم لكل منها ميزات انفرد بها، وسادته سلالات تميزه عن غيره، لكن ظلت هذه السلالات في تواصل مستمر على اختلاف ألوانها ولهجاتها ونشاطاتها وانتماءاتها الدينية والعقائدية والاجتماعية حتى امتزجت ثقافاتها إلى حد كبير، ثم صُبغت تلك الثقافة الممتزجة بالثقافة المسيحية ثم الإسلامية، وكانت الحصيلة النهائية مزيجًا من الثقافات المزدوجة ذات الطابع الإسلامي والمسيحي والوثني، منذ عهد مملكة كوش ونبتة ومروي، مرورًا بمملكتي المقرة وعلوة المسيحيتين، ثم مملكة النوبة الإسلامية في دنقلا، وسلطنة الفونج الإسلامية في سنار، ومن ثم اندمجت تلك الثقافات في حياة السودانيين بصورة عفوية في نوع من التراث والتقاليد، قد لا يرى الكثيرون فيها انتقاصًا من قيمهم الدينية، وإن كان بعضها يتعارض مع تعاليم الإسلام.

إذن الثقافة السودانية في مجملها هي عبارة عن تلاقح ثقافة إفريقية (حاميّة، زنجية) متوطنة مع ثقافة مسيحية وعربية إسلامية، وهذا التلاقح بالطبع أعطى المجتمع السوداني بُعدًا مكّن أفراده من إبراز تلك الثقافة من خلال التنوع في المفردات اللغوية (اللهجة العامية السودانية)، والعادات والتقاليد، والملبس والمأكل، والتعامل بين أفراد المجتمع مع بعضهم بعضًا ومع غيرهم من أفراد المجتمعات الأخرى، حتى أنه ليُشار إلى شخص ما من بين أشخاص كثر من مواطن أخرى أن هذا الشخص (سوداني) وأن هذا السلوك (سوداني) وهذا الأداء (سوداني) وأن تلك البناية ذات نمط (سوداني) وأن هذا الفلكور (سوداني) وهنالك الكثير مما يختص به السودان وأهله، الذين تفردوا به دون غيرهم من البشر.

تأثير الثقافة المتوطنة في تشكيل الثقافة السودانية:

تعد الثقافة الكوشية (الحامية) هي أساس الثقافة السودانية، كونها ثقافة متوطنة، وهناك الكثير من المفردات اللغوية والسلوكية والفلكورية في الثقافة السودانية تعود إلى الثقافة الكوشية وما يرتبط بها من الثقافة الفرعونية ولغتها الهيروغولفية، فمثلًا مفردة (بِسْ) أصلها كوشية، وهي بس بكسر الباء أو بسات، وهو إله بجسد قط يمثل عند الكوشيين حامي البراءة والطفولة، والكلمة مستخدمة لطرد القط أو إبعاده في عامية أهل السودان. ومفردة (دودو) تعني إله الشر في ديانة أهل وادي النيل القدماء، ويطلقها أهل السودان على كائن أسطوري ارتبط بالظلام يخوّف به الأطفال، ومفردة (كُر) تعني إله الأرض مستودع الأجساد الميتة عند الكوشيين القدماء، وتستخدمها النساء في عامية أهل السودان للشفقة كقولهن للمريض: (كر عليك)، ومفردة (ووب) تعني كبير الكهنة المختص بتحنيط الموتى لدى قدماء الكوشيين، وتوجد نقوش حجرية توثق لمجموعة من النساء يهلن التراب على رؤوسهن جراء فقد عزيز لهن، وفي عامية أهل السودان تطلقها النساء أيضًا عند موت عزيز، وتكون بصيغة (ووب عليّ) وهي عادة منتشرة في كل أنحاء السودان تقريبًا. وتمثل مفردة (الجرتق) بوصفها عادة كوشية، واحدة من أبرز وأشهر الطقوس التقليدية في مراسم الزواج وأكثرها انتشارًا في كل أرجاء السودان، تحتشد في هذه العادة تفاصيل عديدة، كالبخور، وتبادل طفل بين العروسين، ولبس (الخرز) ورش العطر واللبن بين العروسين، وتصحب كل ذلك رقصات وأهازيج خاصة يرتبط معظمها بالحضارة النيلية (الكوشية)، ويُعتقد أن طقوس (الجرتق) المختلفة، تمنع الشر وتحفظ صفاء العلاقة الزوجية وتحميها من الحسد، ومن تدخلات الجن والشياطين، وتجلب الذرية والرزق الوفيرين.

أما مفردة (بعاتي) فأصلها يعود إلى لغة الفراعنة (الهيروغليفية)، (با) تعني الروح و(عاتي أو اتي) تعني العدائي أو الشرير والمعني الروح الشريرة، والبعاتي شخصية أسطورية شريرة في عامية أهل السودان تُرجّح عودةرمزيتها إلى قرين الميت، كذلك مفردة (تُقابا) أصلها هيروغليفية، وتتكون من مقطعين (تقا أو تكا) بمعنىالنار، و(با) هي الروح والمعنى نار الروح أو النار الروحانية، ويطلقها أهل السودان على نار القرآن المعروفة في الخلاوي. أيضًا مفردة (زَرزَر):أصلها هيروغليفية، وتعني حاصر الشخص بالأسئلة الصعبة والاتهاماتحتى يعترف بما فعل، وفي عامية أهل السودان وردت بذات المعنى، كقول أحدهم: زرزرته فاعترف، أي: حاصرته بالأسئلة الصعبة والاتهامات حتى اعترف بما اقترف

bottom of page