top of page

الارتباط الشرطي بفيلم "وحيد في المنزل" وحلم التجديد

تاريخ التحديث: ١٧ يناير


"فيلم "وحيد في المنزل
"فيلم "وحيد في المنزل

إيريني سمير حكيم - مصر
إيريني سمير حكيم - مصر

في نهاية كل عام وبداية عامٍ جديد، ترتبط المشاعر الإنسانية بحالة من الرغبة في التجديد والتغيير، والتي كثيراً ما يصاحبها سلوكيات ذهنية وفعلية، لتفعيل ذلك في الحياة العملية، منها الذي يبدو واضحاً كقرارٍ جديدٍ، أو خطوة جديدة جادة في الحياة، ومنها ما يصاحب احتياج التغيير هذا، بصورة غير متوقعة، ربما تبدو كأنَّها للتسلية، أو عادة سنوية، لكنَّها في جوهرها، تحمل الكثير من التأثير بالنفس، وتحملها على الكثير من التغيير.

وفي هذا نتطلَّع على إحدى تأثيرات السينما النفسية، الذي يترسب مفعول كبير منه في نفوسنا، في هذا التوقيت من كل عام، والسينما النفسية تلك لا تتعرض للاضطرابات النفسية لشخصيات العمل وحسب، بل إنَّها تتعرض لصراعاتها ومعاناتها وأحاسيسها العادية المسار أيضاً، المتغيرة منها والمتصادمة، الحزينة منها والسعيدة، فدورها الأساسي هو الغَوص في مشاعر أحدهم، سواء كان في حالة نفسية جيدة أو سيئة، وإن كان هناك تصور لدى البعض بأنَّ السينما النفسية، ترتبط بالأمراض والاضطرابات النفسية فقط، وهذا غير دقيق، حيث إنَّ هذه السينما على أيَّ حال تكون عليه شخصياتها، فإنَّ دورها الأساسي هو أن تتحرك بعدستها، داخل الأعماق النفسية للإنسان، لتعكس للمُشاهد ما يدور بوجدانه الداخلي، وتُريه كيف يرى أمور حياته في عالمه الخارجي، من منظور نفسيته الخاصة، ويُزيد تميز دور السينما النفسية هذا، قيامها بعمل جسر شديد الخصوصية، بين المتفرج كفرد، وبين بطل هذا الفيلم وعالمه، وربما يتطور هذا التأثير إلى حالة جماعية، تنتقل من نفسية المُتلقي الواحد، إلى متلازمة درامية اجتماعية جمعية، ترتبط بحدث وبشعور، يمر به جموع من البشر في مواقيت محددة، أو أحداث نمطية متكررة في حياتهم، ليصبح الفيلم في حد ذاته ظاهرة، وعادة تربط بين عمل سينما نفسية، ونفسية مُتلقي، فيصبح "ارتباطاً شرطياً" لدى جمهوره، يلازم ذاكرتهم وسلوكياتهم، التي تشمل إعادة تشغيله، في كل تكرار لحدث معين من كل عام.

وأكثر هذه الأمثلة تميزاً على نمط تلك الأفلام، ويتقدَّم صدارتها، فيلم "وحيد في المنزل" "Home Alone"، الذي لايزال يحظى بنجاحٍ مدوٍّ حتى اليوم، بجزئيه الأول والثاني لعامي 1990م و1992م، وهو من تأليف "جون هيوز"، وإخراج "كريس كولومبوس"، وتمثيل الطفل حينذاك، الفنان "ماكولي كولكن"، وموسيقى الموسيقار "جون ويليامز"، هذا الفيلم الذي ارتبطت أجواء أعياد "الكريسماس"، واحتفالات نهاية العام به، في العالم كله، وقد تم ترجمته للغاتٍ عديدة، ولايزال يذاع حتى الآن في قنوات متعددة، لبلدان كثيرة، ويتم مشاركات المقاطع والصور منه، بشكل فردي وجمعي على مواقع التواصل الاجتماعي، كجزء أصيل لمظاهر البهجة والألفة، المصاحبة لهذة الفترة المبهجة من العام.




ولكن عند تحليل سبب هذا الارتباط النفسي الكبير، لأجيال كثيرة من ثقافات مختلفة حول العالم، بهذا العمل السينمائي، الذي مرَّ عليه أكثر من ثلاثين عاماً، يتضح أنَّ هذا التعلق المُبهج والمريح للمتفرج به، وإعادة مشاهدته في نفس الموعد من كل عام، لا يعود فقط إلى القصة الجريئة والمبتكرة حين ظهوره، عن أفلام الأجواء العائلية للأعياد، أو طرافة وصدق الموسيقى المصاحبة للأحداث، والتي كانت بمثابة صديقٍ صدوق لهذا الطفل الوحيد، ولا لحسن اختيار الممثلين، وإخراج الحبكة الدرامية بصورة شيقة على مدار عرض العمل، أو التمثيل التلقائي والاحترافي لهذا الطفل العبقري الأداء والتعبير، أو في حسن التصرف أمام أصعب المواقف كبطل للفيلم، إنَّما هو الارتباط النفسيٌّ بين ما قدمه هذا الفيلم، بكل عناصره المتكامله، وبين الطفل القابع داخل نفسية المُشاهِد، ذاك الطفل الذي لا يكبر، وتلك الوحدة الدفينة الملازمة لسنين حياته، بصورة أو بأخرى، والتي غالباً ما تعتري نفسه، في أيام الأعياد والاحتفالات، فما قدَّمه الفيلم حقاً، هو تجسيد لتناقضات شعور الكثيرين، ممن يمرون بهذه الأوقات وحيدين، سواء كانوا في وحدة صريحة، دون وجود أحد من المقربين لهم حولهم، أو وحدة مُقنَّعة، غير مباشرة، تضج بصحبة الأصدقاء والعائلة، مع أجواء فارغة من متعة هذه الصحبة وجمالها.

 ولكن الفيلم قدَّم بذكاء لهذا المُشاهِد، حالة من الدفاع النفسي، وتحقيق التوازن الداخلي والتصالح مع الذات، في مواجهة كل ظروف الوحدة والخوف والأحداث السيئة، التي قد تتخلل هذه المناسبات السعيدة، فتمنحه طمأنينة، وقدرة شجاعة طفولية، تقوى على هزيمة، كل الصعاب النفسية والمادية التي تواجهها، بلا خوف أو أضرار، بل عَمَل على خلق أجواء سعيدة مثيرة، وابتكر حلولاً منطقية لها، وإن كانت بصورة غير نمطية، أو كوميدية فانتازية لطفل حاد الذكاء، وسريع البديهة في العديد من المواقف، ذلك بالرغم من قيود الوحدة وضعف الحيلة، التي فُرِضت عليه، بل إنَّها تحولَّت إلى مقدرة على التعامل، مع أي موقف أو أي شخص، مهما كان مدى صعوبته أو خطورته.

إنَّ الطفل "كيفين" وظروف نسيانه وحيداً من قبل عائلته سنتين متتاليتين، وكأنَّه إصرار من الظروف على تكرار شعوره بالوحدة، وتحمُّل المسؤولية، وإيجاد بدائل للونَس، والاحتفال والفرح، لَهو بمثابة انعكاس، للطفل الساكن بداخل كل مُشاهِد، الذي لايزال على نفس عمره، والذي نما خارجياً ولكنَّه لم يكبر داخلياً، فيرى فيه نفسه، بمواجهاتها وانتصاراتها المنشودة، على أي بيئة مزعجة، أو أحداث طارئة، تدفع إلى تعطيل احتفاله وفرحه، وبمهارة "كيفين" في التعامل مع كل ما يمر به من مفاجآت غير سعيدة، وتحويله لها ببراءة وإقدام الأطفال، إلى إمكانيات نافعة له، ومعطيات لنجاحه وسعادته، يعزز العمل ثقة هذا الطفل الداخلي للمُشاهد بنفسه، وبإمكانية تخطيه لأي عقبات، تُحيل بينه وبين الابتهاج في هذه المناسبة السعيدة، بل وعلى كل مشاكل واجهها وحيداً، في هذا العام الذي ينتهي، وتمثلَّت له في صورة وحدة، أو أي خطر كان أو أذى.



وبهذا يكون الفيلم قد أحدث تأكيداً على انتصاره الداخلي، على كل محاولات للهزيمة والحزن تحيط به من الخارج، إنَّه بمثابة انعكاس سينمائي يخبره كل عام: "أيها الطفل الوحيد، إعلم أنَّك لست وحدك! .. لك فرصة أن تبتهج وتحتفل، وأن تكون بطل يومك هذا"، بل منحه أيضاً، فرصة تصور أن يكون بطلاً منقذاً، لا لنفسه وحسب من المخاطر والأشرار، بل منقذاً لبيته ولممتلكات الآخرين، زارعاً في نفسه  الحافز في أن يكون بطلاً حقيقيّاً، بضعفه الشجاع، ووحدته الطفولية القوية، المحتفظة بنقائها بالتصديق في تقديم المساعدة والأفعال الخيرة.

لقد اجتازت عناصر العمل في وصف أفكار ومشاعر هذا الطفل، باختلافاتها، وتحركت معه في رشاقة بين كل حدث وآخر وشعور وآخر، فسجلَّت فتوره وحماسه، وخوفه وجُبنه وشجاعته واشتياقه، وألصقت المُشاهد نفسياً بمسير ومصير هذا الطفل، الذي على الشاشة، في كل حالة يمر بها، وكل إحساس يجتاح نفسه، كما ركزَّت بشكل عام على تقلباته الشعورية والحدثية، وبالتحديد على صراعه بين احتياجه لدفء العائلة وأمنياته المتكررة في أن يحتفل وحده بالعيد بعيداً عن ضوضاء هذه العائلته، وقد تركت أثراً لهذا التناقض الشعوري، على جميع تفاصيل الفيلم، فكان من حين لآخر يتأرجح بين سعادته بحرية الوحدة، وبين الحنين إلى والدته، وأجواء الاحتفال العائلي. 

وقد تعرض كل من السيناريو والإخراج، لوصف هذا الشعور المتناقض في أشكال لمواقف مختلفة وبصور متنوعة، ليتم في نهاية الفيلم الإجابة على هذه الحيرة، بحضن دافئ من والدته، بعيداً عن صخب الازدحام العائلي، ليضع بتكرار هذا المشهد في جزأي الفيلم، الإجابة النفسية المؤكِّدَة على حيرة نفسية متكررة في الفيلمين مع هذا الصبي، والتي كانت بمثابة الاحتفال الحقيقي بالعيد بالنسبة له، فحضن والدته الهادئ، والاهتمام الفردي الخاص به بعيداً عن المحبة المزدحمة بالشخصيات، كان هو احتياجه النفسي، الذي من أجله تنقَّل بين معارك حقيقية ووهمية كثيرة، جعلته يقضي أيام الأعياد في صراعات نفسية واجتماعية مركَّبة، انتهت باحتضانها له، ومعها هدأت عواصف العام المُنقضي، ومع "كيفين" يبقى المُشاهد على أمل مبهج بمقابلة هذا الاحتواء مثله، أو الامتنان لوجوده إن كان موجوداً، وربما كانت هذه الوحدة الداخلية بعاطفتيها المتنافرتين، وعلاجها في نهاية كل جزء من هذا العمل، هو هدف الفيلم الأساسي، الذي أراد رواده أن يروجوا له جماهيرياً، بمشاركة كل مُشاهِد على حِدةٍ، بشطر من خبايا نفسه الداخلية، وظروفه الحياتية، التي تتشابه بصورة أو بأخرى مع ظروف هذا الطفل، فتتشبَّع نفسيته كمتلقٍ، بما يُلقي فيها الفيلم، من متعة سينمائية، تحمل الكثير من المؤازرة والدعم والأمل.

وهنا تتقابل المصالح الإنسانية، بين نفسية المُتلقي، التي تتقبل بأريحية ما يقدمه إليها الفيلم، وسينما نفسية ناعمة التقديم والتأثير، تتسلَّل إلى أعماق نفسه بسلاسة وودّ، في هدف مباشر التأثير، وغير مباشر التصنيف، لتكشف له ما بها من ذكريات ومشاعر وتحديات، وهنا تم زرع بذرة "الارتباط الشرطي" سينمائياً بنجاح، لدى جمهور هذا الفيلم، ليصنعا معاً ثنائياً رائعاً يخدم استمرارية نجاح العمل في حياة المُشاهِد بشكل مباشر، واستمرارية المُتلقي في تأثره بالفيلم، بل وتأثيره هو ذاته فيه، فقد أصبح جزءاً من قصته المعروضة، بعد أن أصبحت قصة الفيلم جزءاً حيَّاً من حياته وعاداته!

إنَّ العمل السينمائي الناجح لسينما نفسية ذكية، على المستوى الإنساني وخاصةً النفسي، يتخطى دوره من مجرد فيلم للمشاهدة والاستمتاع، وتسلية الوقت، إلى دواخل نفسية الإنسان، حتى ينمو تأثيره بداخله، مع مرور الوقت والسن، فيعمل فيها لأجلها، وذلك حينما يكون عملاً إنسانياً صادقاً، ومُنفَّذاً بحبكة درامية ناضجة، وبعناصر فنية عالية الجودة.




وهذا ما قد حدث فعلياً مع فيلم "وحيد في المنزل"، الذي لم يكن مجرد رسالة وقتية، تأثيرها يلازم مدة مُشاهدة العمل، في نطاق المجتمع الأميريكي وحسب، بل تخطَّى زمن وحدود مجتمع إنتاجه، إلى الآن وإلى العالم أجمع، لأنَّه قد لامس بصدق ومهارة ظروفاً عائلية، ونفسية بشكل عميق ومباشر، فبقيَّ تأثيره حتى هذه اللحظة، لأنَّه مازال يُقدِّم بهجة ومعونة ومشاركة، لكل مُشاهِد مازال بداخله طفل يتألم، ويحتاج لونيس، ولمَّة صادقة، وانتصار على صعاب اليوم الحالي، والعام السابق، رافضاً ببراءة الشجاعة الطفولية، الاستسلام لكل مظاهر العجز والوحدة، صانعاً من كل فرصة ونصف فرصة، بل كل مقاومة وتعجيز، إمكانية لتحقيق احتياجاته المؤقتة، والاستفادة منها في توفير أمان، واستمتاع لحظي مؤقت، حتى تأتيه فرص الحماية والأنس الحقيقية، التي ستعود به إلى واقع البهجة من جديد، وإن تأخرت كما حدث مع "كيفين"، في تكرار نفس حادثة النسيان من الأسرة في الجزء الثاني، فسيكرر هذا المُشاهد، مهاراته وميكانيزمات دفاعه عن نفسه، في التعايش والمقاومة والاستمتاع، حتى يأتيه الأمان ودفء الصحبة في حينه.

وهكذا تكون أغراض السينما النفسية في هذا الفيلم، قد جعلَت من كل مُشاهدَة جديدة من المُشاهِد له، بمثابة تجديد لانتصار الطفل الداخلي في أعماق اللاوعي في نفسه، مُجددة معه شجاعته الطفولية، بعيداً عن يأس وإحباطات ذلك الناضج في وعيه، هذا الذي اختبر صعوبات وانهزامات، وتجارب سيئة في عامهِ السابق للتو، مُشبِّعاً نفسه بطاقة جديدة، تجلعه نوعاً ما، قادراً على الاحتفال اللحظي، حتى وإن كان فردياً، ومستعداً لمواجهة مصاعب جديدة، بطفل متجدد بداخله، يرى في المواقف الطارئة مغامرة، وفي المفاجآت المؤلمة تحدياً، والأشخاص المؤذيين أضحوكة، وفي النجاة من شِراك آذاهم، تسلية تتطوَّر نفسه بها!

 

 

bottom of page