top of page

ألف ليلة وليلة " وعولمة سحر الشرق

تاريخ التحديث: ١ نوفمبر ٢٠٢٣


سهير عبد الحميد

ألف ليلة وليلة " وعولمة سحر الشرق

- سهير عبد الحميد/ مصر


بين دفتيه عالم خيالي، يستمد سحره الخاص من ملاحم الفرس، وأساطير الهند، وأشعار العرب، قصص من عالم الجان، وبلاد تركب الأفيال، ورحلات مليئة بالمغامرات في صحارى قاحلة، وبحار مجهولة، ومغارات مظلمة، بساط يطير ومصباح يحقق الأحلام، وحصان من الأبنوس، ومدينة من النحاس، مزيج تشكل كتحفة من المنمنمات، غزلت تفاصيلها على مهل، رغم أنه لم يؤلفها شخص واحد، وربما هذا سر ثرائها الذي جعلها ملهمة بشكل استثنائي، فتسللت حكايات كتاب ألف ليلة وليلة إلى وجدان الغربيين، فأصابتهم بخدر لذيذ، أفاقوا منه ليجدوا الليالي العربية قد أسرتهم، فانبرى كتابهم يستقون منها، وينسجون على منوالها، ويسبغون على سطور رواياتهم وأشعارهم شيئاً من كائناتها الخرافية، ونسائها المحاربات والعاشقات، وشخوصها الغريبة، ما جنح منها إلى الخير، وما استسلم منها للشر. ووصل حد التأثر بحكايات الليالي الألف - التي جاءت مزيجاً من الآداب العربية والهندية والفارسية - أن حاول بعض الكتاب الغربيين تصور ما يمكن أن تحمله الليلة الثانية بعد الألف من مفاجآت!

*****

ألف ليلة وليلة، البوابة السحرية التي أطل منها الغرب على عالم الشرق منذ مطلع القرن الثامن عشر، وأغرت الرحالة والمستشرقين لزيارة الشرق الذي قرؤوا عنه في كتاب الحواديت؛ فتقول الناقدة الألمانية (اردموته هللر): "إن تلك الحكايات أسهمت في خلق الصور الرومانسية الخيالية عن الشرق"، وتؤكد سهير القلماوي أن "قوة حركة الاستشراق ترجع إلى ما ترك هذا الأثر الأدبي "ألف ليلة وليلة" في نفوس الغربيين، وحفز الأدباء والرحالة على زيارة بلاد الشرق وتدوين رحلاتهم"

كانت حواديت الليالي العربية مبعث السحر والخيال في صبا كل من قرؤوها، ويكفينا أن نقرأ ما كتبه الزعيم الهندي نهرو في رسالة إلى ابنته: "ألا تتذكرين بغداد وهارون الرشيد وشهرزاد وقصص ألف ليلة وليلة الممتعة؟!".

كان أول من فتح تلك البوابة السحرية، الفرنسي (أنطوان جالان) الذي تخصص في العلوم الشرقية وله ترجمة للقرآن الكريم محفوظة في المكتبة الأهلية بباريس، واشتغل بجمع التحف التاريخية والمخطوطات الشرقية النادرة، فوقعت في يديه 4 مجلدات من حلب لحكايات ألف ليلة وليلة، فعكف على ترجمتها إلى الفرنسية خلال الفترة من 1704 – 1717 م.

لاقت ترجمة (جالان) صدى كبيراً رغم ما شابها من عيوب، فكما تقول سهير القلماوي: "تصرف (جالان) في ترجمته كثيراً، فأضاف وحذف وغيّر، حتى يلائم الذوق الأوروبي، فإن ترجمة علمية في هذا العصر لم تكن لتظفر بأي نجاح في أوروبا، ولقد ألف بعض القصص على أساس ما سمع". لكن ترجمة (جالان) كانت الشعلة التي أعقبتها الترجمات بكل اللغات الأوروبية، منها ما ترجم عن (جالان) ومنها ما ترجم عن الطبعات العربية. ثم جاءت الترجمة الأقرب إلى النص العربي ممثلة في ترجمة المستشرق والطبيب الفرنسي جوزيف (شارل ماردروس) ( 1868- 1949) الذي ولد بالقاهرة وتعلم في مدرسة الجيزويت، ثم رحل إلى باريس حيث درس الطب.

وتلت الترجمات دراسات مختلفة لمحاولة سبر غموض تلك الحكايات مجهولة النسب، افتتحها المستشرق النمساوي (فون هامر)، مشيراً إلى أن "مروج الذهب" للمسعودي يؤكد أن الكتاب ترجم أيام المنصور عن الفارسية، في حين رجح المستشرق البريطاني (إدوارد لين) أن مؤلف الحكايات واحد وأنه من مصر، وأنه ألفها في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي وأوائل القرن الساس عشر الميلادي، لكن الدانمركي (أوبسترب) اختلف معه، مبيناً أن الليالي ليست لمؤلف واحد.

وحسب (مارك دونالك) "فقد اتفق الباحثون والمؤرخون ـ ومنهم المسعودي وابن النديم ـ على أن أصول ألف ليلة وليلة، تعود إلى الكتاب الفارسي "هزار افسانة" الذي ترجم إلى العربية بعنوان "ألف خرافة" في القرن الثامن الميلادي، وفي القرن نفسه تمَّت إضافة قصص، وكتابة ألف ليلة التي ضمت قصصاً ذات أصل هندي، مثل القصة الإطارية لشهر زاد، يليها حكايات من أصول عربية، ثم إضافات في العصر الفاطمي من أصول مختلفة، ثم ترجمة (أنطوان جالان) ومخطوطاته الشامية من طرابلس وحلب".


الملهم الأول

لم يخفِ الكتاب الغربيون أن قراءة ألف ليلة وليلة في صباهم فتحت لهم آفاق الخيال؛ فقد أكد الروائي والناقد الفرنسي (أناتول فرانس) أنه تتلمذ عليها قبل أن يكون أديباً، وذكر (تولستوي) أن حكايتي علي بابا وقمر الزمان من الحكايات التي تركت في نفسه تأثيراً كبيراً قبل أن يصبح عمره أربعة عشر عاماً، ووضع (برنارد شو) الإنجيل وألف ليلة وليلة، في مقدمة الكتب التي أثَّرت في إنتاجه الفكري.

أما (فولتير) فقال: "لم أصبح قاصاً إلا بعد أن قرأت ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة"، وكتب د. طه حسين في تقديمه لترجمة قصة "زديج" لفولتير التي تناولت فلسفياً مسألة القضاء والقدر من وجهة نظر شرقية: "وقد مرّ(فولتير) في طور من أطوار حياته الأدبية قرأ فيها ترجمة "ألف ليلة وليلة"، فشاقته وراقته ووجهته إلى دراسة أمور الشرق، فغرق في هذه الدراسة إلى أذنيه وأخرج للناس قصصاً شرقية بارعة كثيرة، منها هذه القصة". القصة تدور حول فتى من بابل يدعى "زديج" تعرض لكثير من المحن، وكان يكافأ بالشر على الخير دوماً، ويستقبل كل ذلك بالصبر وفي النهاية تمّت مكافأته بأن أصبح ملكاً لبابل.

جاء تأثير "الليالي" واضحاً في الكتابات القصصية التي ظهرت في فرنسا وإنجلترا وإيطاليا خلال القرن التاسع عشر، بل إن عدداً من النقاد أكد أن الحركة الرومانسية تفجرت في إنجلترا بفضل اكتشاف الكتاب والفنانين للحكايات، حتى إن (هنري ويبر) فى مقدمة كتابه "حكايات من الشرق" 1812 ، يقول: "مَن ذلك الذي لا تغمره البهجة إذ يتذكر العواطف والانفعالات التي صاحبت قراءته للمرة الأولى لحكايات ألف ليلة وليلة؟!!.. إن حكايات خيالية مثل مصباح علاء الدين السحري، والمغارة التي أوى إليها الأربعون لصاً، قد أسهمت في تسلية وإمتاع جميع الأجيال التي تعاقبت منذ ظهور تلك الحكايات لأول مرة أكثر مما ساهمت به كل الأعمال التي قدمها الخيال الأوروبي من أجل ثقيف الشباب وإمتاعه".

كما نلمح تأثير الليالي العربية في قصائد (اللورد بايرون) الذي أولع بالشرق، فقضى فترة من عمره في ألبانيا وإسطنبول، وارتدى الملابس الشرقية والعمامة، وفتل شواربه في إحدى الصور الشهيرة له، وكما يقول المؤرخ محمد عناني في ترجمة رائعة (بايرون) "دون جوان": إن خيالات ألف ليلة وليلة تخرج من وعي (بايرون) في الفقرة:

وعلى البُعد وقف مهرج قزم يحكي حكاياته الخيالية

إلى حلقة هادئة وخطها الشيب من المسنين الذين يدخنون

عن الكنوز السرية التي عثر عليها في أودية خفية

ويذكر الباحث (ميشيل سلاتر) أن إحدى حكايات ألف ليلة وليلة المحببة للروائي البريطاني (تشارلز ديكنز) هي قصة الصعلوك الثالث، صاحب حكاية جبل المغناطيس، والشبان العشرة الذين يسودون وجوههم ويبكون على مصيرهم كل ليلة، وقد أمدته بصور واستعارات أصيلة في كل من روايتيه "الصغيرة دوريت" و"قصة مدينتين".

أما (روبرت لويس ستيفنسون) (1850- 1894) فإنه في كتابه " الليالي العربية الجديدة " 1882 ، يبين أن كتاب ألف ليلة وليلة أدب خالص لا يهدف من ورائه إلى مواعظ أخلاقية أو أهمية فكريّة قائلاً: "هناك مثلاً كتاب محبوب أكثر من كتب (شكسبير) يأسر النفوس في عهد الطفولة ويبهج النفس في الكبر، وأعني به الليالي العربية، حيث لا تجد مواعظ أخلاقيّة ولا اهتمامات فكريّة. إننا لا نتعرف على وجوه أو أصوات إنسانية وسط جمهرة الملوك والجنيات والساحرات والشحاذين، فالمغامرات الخالصة فيها توفر المتعة والتسلية وفيها الكفاية".

وكتب (جورج ميريدث) (1828- 1909 )، في مقدمة روايته "قص شعر شجبات" وعنوانها الفرعي "مسامرات عربية "وصدرت عام 1855 ، إنها بمثابة محاولة لاحتذاء أسلوب وطريقة الحكائين الشرقيين الذين أعجب بهم عبر قراءة ألف ليلة وليلة في صباه.

وكذلك (جيمس موريير) "1780- 1849 " الديبلوماسي والكاتب الإنجليزي، هو نموذج آخر شكلت أسفاره في الشرق وقراءته ألف ليلة وليلة المعين الأول الذي استقى منه أفكار رواياته، والتي جاء أشهرها: "مغامرات حاجي بابا الأصفهاني" 1824 ثم "مغامرات حاجي بابا الأصفهاني في إنجلترا ". في مغامرات حاجي بابا نجد الأحداث اليومية في إيران أثناء حكم السلالة القاجارية، من خلال مغامرات يخوضها ابن الحلاق حاجي بابا الأصفهاني بحثاً عن الرزق، وقد كتب (موريير) في مقدمة الرواية عن تأثرها بألف ليلة وليلة. كانت الرواية شديدة الواقعية وترجمت إلى الفارسية بعد صدورها بخمسين عاماً، ثم ترجمها محمد أفندي لطفي إلى العربية عام 1891. وعن أحداث هذه الرواية صدر فيلم بالاسم نفسه في الولايات المتحدة عام 1954م، وحقق نجاحاً كبيراً مثل العديد من القصص المستقاة من ألف ليلة وليلة، والتي تم تحويلها إلى أعمال سينمائية أو مسرحية أو أفلام كارتونية.

ولما أراد (مونتسيكيو) انتقاد المجتمع الفرنسي في سلوكه وأخلاقه ونظامه السياسي، كتب "الرسائل الفارسية" عام 1721 برموز وصور مستوحاة من قصص الليالي الألف.

أيضاً الروائي الإنجليزي (وليم بيكفورد) ( 1760- 1844) وهو ناقد وكاتب وسياسي ومهندس معماري، جاءت روايته "الواثق" عن الخليفة الواثق، وهو ابن المعتصم بالله الخليفة العباسي، استنساخاً لعالم الليالي، وكان عُمر بيكفورد حين كتب القصة بالفرنسية عام 1782 آنذاك 21 عاماً ثم ترجمها القس صموئيل هينلي إلى الإنجليزية. أما المستشرق (جب) فقال: "إنه لولا ألف ليلة وليلة ما استطاع سويفت أن يسجل رحلات جاليفر".

ويرى النقاد أن مسرحية (شكسبير) "أوتيللو" التي ترجمها خليل مطران بـ"عطيل" التي تدور حول مغربي نبيل يخنق زوجته ديدمونة لظنه الخاطئ أنها تخونه فيقتل نفسه حين يكتشف، تشبه حكاية قمر الزمان ومعشوقته، كما قالوا: إن "تاجر البندقية" تشبه مسرور التاجر وزين المواصف، وهو ما قال به المستشرق البريطاني (آربري)، الذي أكد تأثر (شكسبير) في مسرحية "تاجر البندقية" بالأدب العربي وقال: "الذي شخص العرب تشخيصاً حياً على المسرح الإنكليزي هو (شكسبير)".

ولم يخفِ عملاق الأدب الأيرلندي (وليام بتلر بيتس) (1865- 1939 ) تأثره بحكايات ألف ليلة فقال: "شكسبير وبلزاك وألف ليلة وليلة هي أدب جاد بالنسبة لأولئك الذين ينشدون الحقيقة بشكل جدي".


احكي يا شهرزاد

تنوعت شخصيات المرأة في الليالي، فهي العاشقة المحبة، أو المحاربة الشجاعة، أو العالمة، أو الجنية التي يحبها الآدمي فيشقى في الوصول إليها مثل "شمسة" في قصة جانشاه، "منار السنا "في حسن البصري، كما أن المرأة في الليالي، وفق الباحث والأكاديمي السوري الدكتور محمد عبد الرحمن يونس "تتموضع على مستوى الفضاء المكاني، سواء أكانت حرة أم جارية، في أمكنة مختلفة بعيدة وقريبة واقعية وتخيلية، فهي من: فارس، والهند، والسند، وبغداد، والبصرة، والقاهرة، والإسكندرية، ودمشق، وحلب، والقدس، وصنعاء، والحجاز، ومن أبعد مكان عرفته أو سمعت به مخيلة رواة الليالي ومبدعيها".

وبين كل هؤلاء تبقى شهرزاد ذات سحر خاص آسر، ما دفع الناقد جون جو لميير للقول: "إن شخصية شهرزاد أثرت تأثيراً حاسماً في تاريخ المرأة الأوروبية، وجعلت القرن الثامن عشر أعظم القرون في حياتها؛ إذ كان لجمالها وثقتها بنفسها وتصديها وحدها لشهريار الذي عجز كل الرجال عن إيقافه، واستخدامها لسلاح الأنوثة والمعرفة معاً، أثر كبير في تكوين الشخصية الأوروبية".

وكثير من المستشرقين أغرتهم نماذج المرأة في ألف ليلة، برسم النساء في الشرق كما فعل (ديلاكروا) الذي سافر للمغرب والجزائر ورسم لوحته الشهيرة "نساء الجزائر".


الليلة الثانية بعد الألف

ماذا حدث لشهر زاد في الليلة الثانية بعد الألف؟! سؤال لمع كالوهج في رأس عدد من الروائيين الذين فتنوا بحكايات شهرزاد التي روضت روح شهريار وهدأت من روعه، فماذا إذن قد يحدث حين تتوقف شهرزاد عن الحكي؟!!، هل يعود شهريار سيرته الأولى؟!! لقد أبدع الروائيون في الغرب عدة روايات تدور في فلك هذا السؤال، وقد رصدها المفكر زكي نجيب محمود، مشيراً إلى قصة كتبها (إدجار آلان بو) بعنوان "الحكاية بعد الثانية بعد الألف لشهرزاد" بدأها بالعثور على مخطوطة قديمة تحمل قصة شهرزاد والتي أخذتها شهوة القصص بعد أن أكملت مهمتها، فأرادت في الليلة الثانية بعد الألف أن تستأنف حكاياتها بحكاية أخرى، لكن شهريار ضاق ذرعاً بشهرزاد فأمر بقتلها.

وسار حذو (آلان بو) الأديب (مارك توين)، لكنه غيّر قليلا في النهاية فحين أمر شهريار بقتل شهرزاد أسرعت الأخيرة وزعمت للملك أن ثمة حادثة خطيرة نسيت أن ترويها له فليمهلها حتى تفرغ منها، فأذن لها الملك فظلت تحكي ليلة وراء الأخرى حتى مات شهريار نفسه.

وقد اعترض زكي نجيب محمود على تلك النهايات، ومن ثم التناول الغربي لصورة الملوك العرب: "فهي صورة ليس فيها إلا السيف والدماء، مع أن هؤلاء الأدباء لو أدركوا الروح الأدبية بعمق لرأوها روحاً تعشق الفن الأدبي حد الفتنة به، فكان مما يتفق مع تلك الروح أن تبلغ شهرزاد بسحر أدبها ما كانت قد بلغته بالفعل في الألف ليلة وليلة، ألا وهو أن تشيع السكينة في نفس الملك فتهدأ عنده نوازع الشر.. وربما كان أدباء الغرب هؤلاء ليقتربون من الصواب في إدراكهم للروح العربية في تأثرها الشديد بالفن الأدبي، لو جعلوا شهريار يغدق لشهر زاد العطاء في نهاية الشوط جزاء فنها".



المصادر :

ماهر البطوطي : الرواية الأم ..ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن ، 2005

سهير القلماوي : ألف ليلة وليلة، دار المعارف ،1943

زكي نجيب محمود : هموم المثقفين ،هنداوي 2019

حويلي نبيل "حكايات ألف ليلة وليلة بعيون غربية ، جامعة مولود معمري ، 2013

سامح كريم : كتب عربية ألهمت العالم، الهيئة العامة للكتاب 2019

د. محمد عبد الرحمن يونس : الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة، مؤسسة الانتشار العربي 1998


bottom of page