top of page

تضاريس مكانية / زمانية للشعر

تاريخ التحديث: ١ نوفمبر ٢٠٢٣



تضاريس مكانية / زمانية للشعر

عبد الرحيم الماسخ : مصر


الحياة حركة دائمة، كما أن الفناء سكون دائم، ومشروعية الوجود في استرسال لا نهائي في دوران بين شِقَّي الرحى، وما بين الحركات والسكنات طعون كثيرة على الإمكان وعدم الإمكان، تتطاير لتتساقط في موقعها مواقع أخرى، فلا يمكن الوصول بلا طريق. من هنا كانت خارطة الإبداع مشحونة بالطرق المتقاطعة، وكان على السالكين تخيّر السبل بطرق في البداية قد تكون تقليدية ظاهرة، ثم تتقلب ما بين الجهات المتاحة في تلافيف تخمينية، وإن حسبها البعض إيحائية في نهاية المطاف، فلا يوجد عقل يعلم الغيب أو يسير ممسكاً بخيوط المستقبل بأمن وسلام دائمين، إنما هي تكهنات واجتهادات تحشد لها العقول كل إمكانياتها، فإذا كانت غاية العقل من كل جهده المبذول بلوغ الكمال فلا بد له من التدرج في مدارج متكاتفة متراكبة النقص، كذلك تتبلور الوسائل عن غايات مجسمة قد تحتاج إلى وقت و جهد، حصيلة الأدب الجاد بعد إذابة وترسيب وغربلة في كبائن الزمان، تعني كل ما وصل إلى جيل من أجيال سابقة بكامل هيئته؛ كي يضمن حيزه بكفاءة واقتدار، وكذلك التحرر إلى مكان من أماكن أخرى، والأدب رهن كل ذلك، فلا يوجد أديب غير متحرك العقل، وإن وجد فلن يكون على قدر من الصلابة يستطيع تبليغه نهاية المطاف كأديب من خلال أدبه.ولأن الآداب تتجاور فلا يطرد بعضها بعضاً؛ تكون أدلة على قدرتها التنافسية وتفوقها بعد ذلك من عدمه، فلا يستطيع نص مغالبة نص آخر وهمياً إلى نهاية المطاف. ومع انحسار هوجة المجاملات التي قد تصاحب الحدث حال طلوعه، تتعرى النصوص أمام المطالعين شيئاً شيئاً، فلا يستطيع الصمود غير القوي الشجاع منها، تلك إذن أدوار الزمان المتلاحقة، أما المكان، وهو المهيمن بمؤثراته البيئية على معظم توجهات المبدع، فلا يستطيع المبدع الفكاك منه إلا ظاهراً سواء بالهجرة الدائمة إلى موطن جديد، أو الهجرة المؤقتة، فإذا تخلص المفكر المهاجر من رواسبه الفكرية وظن أنه نجا من ويلاتها، صفا إلى استقبال عالمه الجديد بفكره القديم أيضاً؛ ليُحدِث نوعاً من التداخل الفكري القسري، وفي النهاية قد يُخرج نصاً متزاوجاً يحمل في طياته ملكة العالم الجديد والقديم معاً.

فعندما تم نفي أحمد شوقي من مصر إلى إسبانيا، شعر بغربته هناك، وقد وجد طائراً يشبه الطيور المصرية ينوح على الطلح فقال:

يا نائح الطلح أشباه عوادينا نأسى لواديك أم تأسى لوادينا

فهو لم يستطع التخلص من ماضيه بحاضره، وكأنه تداخل مع حاضر غيره في مزج ثقافي ملفت ما بين نونية ابن زيدون شاعر الأندلس ونونية شوقي.

هناك تجارب تأصيلية تثبت هذا الوضع لا تترك وراءها إلا تجارب أدبية قليلة، معظم الشعراء كانوا رُحّلاً، مثلاً، للمتنبي قصائد سورية المهبط، ومصرية كذلك،،، إلخ، المهم مدى التأثير المكاني والزماني على الشاعر.

في عصرنا المفتوح على مزيد من الثقافات تتوارد النصوص المتكاملة ما بين أزمنة و أماكن شاسعة، حتى أن شاعراً مثل (جوته) ترك ديوانه الشرقي المتأثر بالتجربة المشرقية العربية، فإذا اكتفى الأديب بتوجه واحد، كالتوجه الصوفي لدى جمال الغيطاني ودليله القطعي عليه رواية الزيني بركات، سلك استحضاراً روحياً لمكنون التجربة، فعاش فيها حتى يعبر عنها، ومع ذلك ظل تعبيره خافت الصوت، باهت النور؛ لأنه جاء من خارج التجربة، فإذا طالعنا الفتوحات المكية لابن عربي لمسنا ثقلاً نوعياً نتيجة معاناة العيش داخل التجربة.

تدريج:

كما تجري الأنهار ما بين المنبع والمصب، لا يوجد فكر نبع من فراغ، إنما نتيجة صحوة تنشيطية لملكة العقل، قد تكون هذه الجرعة شحنة عاطفية طغت على التدبير والإمكان وتصاعدت في المتخيل، أو جرعة فكرية لامست القبول بالرفض، أو لامست الرفض بالقبول، في اشتباك حواري هادف إلى غاية من غايات الوفاق ستثبت حضورها فيما بعد، حتى وإن غابت بروافد حية تفصح عن مكنون روحها المتحرر. فتلاقح الأفكار لا حد له ولا مرحلة، فلا يوقف تيار الفكر جهل طارئ جثم على بعض الصدور، ولا يطغيه علم أثبت تفوقه على ملزمة جيله الحضارية. كل العقول في سباق معرفي متنوع، فإذا كان شاعر المثقفين، المتنبي، وأمثاله من أساطين الشعر الفصيح، الذين عبروا عن حال الأمة في أفراحها وأتراحها، فأنجزوا بلا إهمال، وعن تجربة حية، وبقوةٍ واقتدارٍ، ما ظلَّ دائماً من آثارهم، ما لا تغيره الفصول ولا تطمسه الرياح، كان شاعر الأميين في نفس الزمان والمكان الشاعر الشعبي الذي استطاع من خلال عزفه على ربابته البدائية أن ينجز سيرة بني هلال وتغريبتهم المتخيل منها والحقيقي، حتى كأن من لم يرَ وقائعها يحياها بانفعالاته ويشتبك متلولباً بمسيرتها، كأنه جزء منها. لقد كان الشاعر الشعبي الجوال مرآة مقعرة لدورات الزمان في تنافرها وتكاملها في ذات الوقت، لقد شاهدت ذات يوم أحد رواة سيرة أبي زيد الهلالي في صعيد مصر، يتجمع الناس من حوله في حشد خرافي، وهو يعيد ويزيد في كلمات قليلة قائلاً:

خليفه لمس تحت باطه منطقه، حضر الجن

قله: يا جن شيل ابو زيد وارميه ورا سبع جبال خليه

يقع وتاكله الديابه

وأثناء هذا الزخم المثير من دراما الشعر اقتحم هذا المعترك شاب يكاد يتمزق بانفعالاته ويصيح بالشاعر: حاسب على جدي من الرمية دي، وفي الحال أخرج الشاب من جيبه رزمة كبيرة من المال، ألقاها إلى الشاعر مما حدا بالشاعر أن يعيد ترتيب عباراته، وإن ذهب به ذلك التعديل في مسيرته الشعرية مذاهب النفي قائلاً:

لكن ابو زيد كان يدرك حروف الهجايه

لما الجن راح راميه

القطب طلع متلقيه وقلله: لا تخاف يا بدايه

إذن الدور المناط بالفنون والآداب ليس دوراً تقليدياً كالحكم والقضاء والجندية،،، إلخ، لكنه دور متعمق في طبيعة البشر إلى قمة الثراء، فلا يترك شاردة ولا واردة إلا أوجد لها مشاركة ضمنية، تحضن الفكر والعاطفة، وتتسرب من قلب النار إلى مرصد المراقبة، فإذا انطفأ اللهب، وعادت الأمور إلى نصابها تعلقت الأحداث متجاورة داخل إطار الذكرى. الحياة هكذا، فلا شيء يدوم، وإنما هي تراكمات تصاعدية للذكرى، وكما قالوا: الحمار لا يسقط في حفرة مرتين، فوجب على الإنسان وهو العاقل أن يظل يتعلم من تجاربه ومن تجارب غيره، حتى ينجو من غرائب الأمور، كلما تطرف به الحال، وحتى يستطيع العودة بأقل القليل من الخسائر من كل مهادنة وملاينة إلى مقر الألفة السرمدية.

وسائط:

سأل أحدهم الشاعربشار بن بُرد عن موضوعية اعتماده - وهو الشاعر الفحل - أبياتاً يراها الكثيرون فقيرة الخيال قليلة المعاني يقول فيها:

ربابة ربة البيت تصب الخل في الزيت

لها سبع دجاجات و ديك حسن الصوت

فأجابه بشّار قائلاً: هذا الشعر وقعه عند جاريتي ربابة أفضل من قصيدة قفا نبك لامرئ القيس، إذن العبرة ليست بالجودة المجردة فقط، إنما للمكانة التعبيرية التي تطرح نفسها بديلًا للواقع أو صورة دالة عليه، صلابة التجربة التي تحميها من عوامل التعرية والاندثار فيما بعد وتضمن لها البقاء. وكما قلنا: لا توجد موهبة متقوقعة على ذاتها طول الوقت لا تفيد ولا تستفيد، وإن وجدت فلن تكون ذات قيمة زمانية ومكانية في نفس الوقت؛ لأنها ستكون زاوية محددة من زوايا الواقع، تقليدية المعالم، بلا فيوض إنمائية تتكوكب ما بين الواقع والخيال، حتى كأنها تنبع من الأزل لتصب في الأبد، فإذا تعرضت هذه التجربة أو تلك للمشاكل الطارئة التي قد تعوق مسيرتها التوضيحية في الوجود فمن أين تأتي بالحلول؟، ومقترحات الحلول لا تتدفق من الصور الجامدة إلا صخوراً، نعم قد تميت و لكنها لا تبعث. التجربة الإنسانية مفتوحة على الدوام، تصرف وتستقبل ما يلائم وجودها المتوقع، أما تجربة الفناء فهي ذاتية منكسرة حتى الذوبان، لا ينبع من داخلها تجديد في الوقت الحاضر ولا إمكان تجديد في المستقبل.

توضيح :

هناك تجربتان متنافرتان تدلان على واقعية التأثير المباشر على الموهبة، ذلك المحرك الخفي لمسيرة الإبداع من البداية إلى النهاية، فكما كانت القراءة قاعدة الانطلاق إلى الكتابة، كانت التجربة الحية ميزان حركة الطيران بلا سقوط من القاع المعرفي إلى القمة، بغير ذلك تكون النصوص عدمية التدفق، لا تستطيع الاستمرار إلا أشتاتاً متنافرة، فللتجربة العاطفية أثر بليغ على الحضور الشعري العام، فلا يوجد شاعر أينما كان خارج التجربة العاطفية، والتجربة العاطفية ليست اكتفاء ذاتياً بالتدرج في معراج الحب بلا طائل،

كما قال شوقي:

نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء

لكن عموم التجربة العاطفية هو عموم الحياة، الأمومة عاطفة، الأبوة عاطفة، القرابة عاطفة، التعليم عاطفة،، إلخ.

الهادي آدم شاعر سوداني ملهم أحب فتاة مصرية، والمعروف أن مصر والسودان شعب واحد، ثقافته واحدة، هدفه واحد منذ الأزل، المهم تقدم لخطبتها، لكن أهلها اعترضوا عليه بحجة صعوبة التعارف بين الأسرتين ذلك لبعد المسافة فيما بينهما، لكن الشاعر لم ييأس وأعاد الكرّة من بعد، وكان قد دفع بزملاء دراسة له إلى أسرة حبيبته تمهيداً لحضوره، فقاموا بالتعريف به وبأسرته على خير وجه، مما حدا بأهل الفتاة أن يوافقوا على حضوره ومن ثم إجازة طلبه، وعندما أبلغه أصدقاؤه بالإيجاب فرح فرحاً شديداً ولم يملك شعوره المتدفق في مسارب الخيال حتى تفجر الشعر على لسانه قائلاً:

أغدا ألقاك؟!!، يا خوف فؤادي من غدي

يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعدِ

ولقد أسهب في وصف حالات الشوق والفرح والقلق التي ألمت به في وقت واحد، حتى كأن الموعد صار دليلاً يعدو أمامه، فربما لحقه وربما فقده، لأن عجلة الزمان ربما تنحرف فجأة أو تسرع أو تتوقف، إنها الانفعالات الطارئة على العقل من خارج حساباته، لقد استكثر الشاعر سعادته عليه، فيا لها من لحظة فارقة في حياته منعكسة في ذات الوقت على شعره، وهكذا يكون الشعر بحيز التجربة المتكاملة بلا نقص ولا زيادة.

التجربة الأخرى حدثت مع شاعر الأطلال، فعندما فكر إبراهيم ناجي أن يتقدم لخطبة حبيبته التي كان قد صبر على حبها طويلاً، فلم يبح به إلا لنفسه، ذهب إلى أهله أخيراً يستأذنهم في ذلك الطلب، راجياً منهم الموافقة، لكنهم واجهوه بالرفض التام، إذ كان حظه أنه حصل على منحة لدراسة الطب في نفس الوقت، لذلك اعتبر الجميع أن مشروع زواج إبراهيم ناجي في ذلك التوقيت سيكون على حساب دراسته وتفوقه، وذلك ما لا يجب أن يكون أبداً، وحرصاً على مستقبله ووجه طلبه رفضاً فأذعن إبراهيم ناجي لرأي الأغلبية، وطوى صفحات الهوى بين جوانحه، واستمر في دراسة الطب حتى تخرج طبيباً ومارس مهنة الطب، وذات يوم طرق بابه طارق، ففتح الباب فوجد أمامه رجلاً متلهفاً يرجوه ويستعجله أن ينقذ زوجته الحامل في الأشهر الأخيرة، فهي في ظرف مرضي خطير يشبه الاختناق، فأسرع إبراهيم ناجي معه، ودخل معه بيته ففوجئ بالمرأة الحامل المريضة، أنها حبيبته الغائبة، لكنه كتم ذلك من لحظته وبذل جهده في علاجها حتى أفاقت وتنفست الصعداء، وقد ابتعد عنها خطر الموت، ثم أصر هذا الطبيب ألا يتقاضى أجراً على ما بذل من جهد تخصصي، وذهب إلى حاله متوجعاً يئن ويرن بكلمات مبهمة سريعاً ما تبلورت عن أبيات معبرة عن حالة الشجن المفرط التي تموج بها روحه إلى حد الذوبان:

يا فؤادي لا تسل أين الهوى

كان صرحاً من خيال فهوى

اسقني واشرب على أطلاله

واروِ عني طالما الدمع روى

إنها التجربة الإنسانية العامة، المحكومة بالفكر والعاطفة، والمحدودة بمغاليق الوجود ومفاتيحه، فلا أحد خارج التجربة بعلمه ولا بجهله، إنما الموجودات داخل الدائرة، والدوران لن يتوقف أبداً!!









Comments


bottom of page