top of page

ملاحظـــــــات عن التَقَطُّـــــــط

تاريخ التحديث: ١٧ يناير


القاص أنيس الرافعي
أنيــــــــس الرافعي - المغــــــــرب

ملاحظـــــات عـــــــــن التَقَــــــــطُّط

أنيـــــــس الرّافعــــــي

المغــــــــرب


"عندما تنجذبُ عينايّ/ نحو هذا القطّ الذي أحبّهُ/

كما تنجذبان نحو مغناطيس/ ترتدّان في انقياد/

وأجدني : أنظرُ في نفسي .."

شارل بودلير ، أزهار الشّرّ، ص 123.

قصة قصيرة

أثناء عكوفهِ على إعداد المادّة الأساسيّة لكتابه ذائع الصّيت "الإيديلوجيا العربيّة المعاصرة"، ما بين الأعوام 1960 و 1965، كان الأستاذ الشّابّ عبد الله العروي - لسبب نفسيٍّ مبهم يرتبطُ على الأرجح بالمهاجرين العرب، أو ربّما لمسوّغ دينيّ ذي صلة وطيدة بالآية القائلة؛ " رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ" - يربّي داخل مكان إقامته الفرنسيّة قطّا فارسيّا متشرّدا (*) ، ذا فراء خفيف بنيّ اللّون ، وعينينكامدتين تخلوان من أيّ تعبير ، ووجه شبه قبيح بلا دلالة ، وضع ﺃحد ما ، على الأرجح مالكه الأوّل ، حول عنقه سلسلة صغيرة علّق عليها حجابًا على شكل جعران .

ولأنّ الأستاذ الألمعيّ المثابر كان منهمكًا طوال الوقت بتحرير فصول مؤلّفه الفكريّ المفصليّ، الذي سيحملُ اسمه فيما بعد على أجنحة المجد إلى كافّة الدوائر العلميّة الفرنكفونيّة المرموقة؛ لم يعر في البداية أدنى اكتراث للمواء الممتعض لهذا الصنف من القطط المتطلِّبة ، الذي يعبّر بهاته الطريقة الوقحة عن ما يلاقيه من إهمال غير مقصود ، كونه يحتاج بلا انقطاع للتزيين، والتمشيط، والمداعبة، والممازحة، بسبب اعتداده المفرط بشعره، وزهوه النرجسيّ بسلالته.

غير أنّ هذا القطّ البائس المتخلّى عنه، لباعث غير بيّن، طفق يثيرُ اهتمام الأستاذ الشّابّ فعلًا، حينما انتبهَ ذات صباح إلى كونه يصدرُ نغمة (مْياووووو) بطابع صوتيّ مرتفع، وعند اقتراب النبر من ذروته القصوى سرعان ما تنقلب تلك النغمةُ إلى(مَاووووو).

استمرّ هذا الأمر الغريب فيما بعد لمدّة شهر تقريبًا، كان محتشدًا بنوبات متعاقبة من المرض والهذيان وفقدان الوعي والغشية التي هاجمت فجأة الباحث النابغ، إلى أن أتت زيارة المرشد الروحيّ للفتى عبد الله العروي، المستشرق مكسيم رودنسون (ذاك الذي سيضع فيما بعد مقدّمة كتاب " الإيديلوجيا العربيّة المعاصرة"، إبّان صدوره عن دار "ماسبيرو" اليساريّة، سنة 1967 ) ، فنصحهُ الرجل الخبير ، وهو يضحك مستغرقًا حتّى بدت نواجذه، بعرض القطّ الفارسيّ/ الطوطم الشخصيّ - مثلما وصفه - على أخصّائي معالج للنطق لدى الحيوانات.

تحمّس ابن مدينة أزمور كثيرًا للفكرة الطريفة، خاصّة بعد تماثله بغتة للشفاء، ثمّ على وجه السرعة حمل القطّ إلى إحدى العيادات المعروفة بالدائرة الإداريّة الرابعة للعاصمة باريس، حيث خضع لسلسلة من التمارين التقويميّة همّت اختلالات جهازه الصوتيّ، عقب تشخيص إصابته باضطراب عاطفيّ مزمن .

و إثر عدّة حصص متلاحقة و مكلّفة من الناحيّة الماديّة، استعادَ القطّ - بقدرة قادر- نغمة (مياوووووو) الجذّابة، بيد أنّه بعد مرور يوم واحد فحسب تبدّلت نغمته على نحو نشاز غير متوقّع هاته المرّة إلى (مُوووووو).

أصيبَ الفتى عبد الله العروي مرهف الإحساس ، جرّاء هاته الوقائع الصوتيّة المتحوّرة والشائهة ، بما أسمّاه حينها في مذكّراته الشخصيّة بـ " التقطُّط" على غرار "التطيّر" ، فكانت دافعًا قويًّا أوحى له بتحبير فصل خامس، لن يرى النور أبدًا بين تضاعيف مؤلّفه وشيك الظهور.

فصل ضائع لم يعثر عليه إطلاقًا خلال السنوات التاليّة بين مسوّداته المحفوظة ضمن "الكتاب الكبير لأعماله" ، حمل عنوان : "تشقيق السياسة" ، حيث توقّع ثلاث متلازمات عضال لرجل السياسة، حينما يتمادى في تفليق و تصديع و تمزيق وتوسيع ممارسته الفجّة، إلى أن يبتذلها و يمسخها بتوليد بعضها من بعض دون وازع أو رادع، فيخرجها عند خاتمة المطاف أسوأ مخرج و أبخس مآل.

يَدْخُلها دخول الآلهة، ويُبارحُها مبارحة العبيد. يبدأُ بـ( مْياووووووو)، فيميلُ على (مَاووووووو )، ليتدهورَ منطقهُ ومعناهُ في المنتهى إلى خُوار البقر...

(*) إحالة: من غرائب الصدف، أنّني بعد كتابة هاته القصة المتخيّلة عن القط/ الطوطم، عثرت في شبكة الإنترنت على صورة حديثة للمفكّر عبد الله العروي وهو يحتضن قطًا داخل منزله، جالسًا على أريكة منجّدة. ولعمري تلك بعض فضائل الأدب اللاّمتوقّعة، أن يستحيل الخيال، أحيانًا، حقيقة واقعة. و قد تبدّى فيما بعد أنّه هو شخصيًّا من أوعز بنشر هاته الصورة على إحدى الصفحات الفيسبوكيّة ، كجواب مبطّن للردّ على الإشاعات المغرضة، التي انتشرت حول وفاته العام 2021. أمّا لماذا انتقى صاحب "من ديوان السّياسة" هاته الصورة تحديدًا ، وما دلالة القط بداخلها و رمزيّته؟ .. فتلك مقاصد غميسة لا يدركها سوى من يخبرون جيّدًا منطق الأرواح السبع للقطط ، وقدرتها الجهنميّة على النجاة من المواقف العصيبة، لدرجة أنّ الإنجليز أضافوا لها في أمثالهم الشعبيّة أرواحًا زائدة، فقالوا على سبيل الطرفة: "القط بتسعة أرواح، ثلاثة عندما يلعب، وثلاثة عندما يهرب، وثلاثة عندما يبقى".. والله أعلم ...


bottom of page