top of page

حجـــــرة الأشيـــــــاء المنسيّــــــة

تاريخ التحديث: ١٧ يناير


القاص سيد الوكيل
سيــــــــد الوكـــــيل - مصــــــــر

حجرة الأشياء المنسية

قصة قصيرة

تركت شيئًا مهما في درج مكتبي.

هذا ما كان يلحّ عليَّ وأنا في طريقي إلى البيت. هاجس لم أتمكن من السيطرة عليه، ولم يكن ثمة طريقة للخلاص منه، سوى أن أعود وأتأكد.. ما الذي نسيت؟ لكنّني متأكد من أنّه مهمّ.. مهم للغاية. الآن..ألوم نفسي: لماذا خرجت متعجلًا بمجرد أن وصلني خطاب المدير العام؟؟ لم يكن يضيرني لو بقيت بضع ساعات أخرى ألملم فيها أشيائي. أعترف أنّي كنت متلهّفًا لأترك هذا المكان الذي كرهته دون أن أعرف لماذا!! ثلاثون عامًا أذهب إليه كلّ يوم، أوقع في دفتر الحضور في التاسعة صباحًا، وفي دفتر الانصراف في الثانية مساءً، أفعل هذا يوميًّا كإنسان آلي، بلا شغف، أو غضب. فقط أنتظر تلك اللحظة التي يأتيني فيها خطاب المدير العام، يحيطني علمًا أنَّ مدّة خدمتي انتهت بإحالتي إلى التقاعد.

في تلك اللحظة، سأضع سجائري، وقلمي في جيب الجاكت الداخلي، وأدس كتبي في حقيبة الكتف التي اهترأت، وتلطخت بكلّ بآثار الزمن.. ثلاثون عامًا كافية لأترك مكتبي، ومقعدي الذي تحمل وطأ مؤخرتي كل هذه السنين.

لكنّي متأكّد أنّي تركت شيئًا هناك، شيئًا مهمًّا أعجز عن تذكره. وعلى أن أعود لأبحث عنه. هل هي صورة (هدى كمال)؟ كنت أخفيها أسفل ملفات تحتوي قرارات الترقية، وعقوبات الشئون القانونيّة لعشرات الموظفين. وربما هي قداحة أبي (الرونسون) التي كان يملؤها بالبنزين، هي من الأشياء التي علقت بمشاعري، ولا أعرف لماذا!!. لقد مضى زمنها ولم تعد تشتعل. محتمل أن يكون الشيك الذي جاءني من صديقي محمد عبد العال. كان حريصًا على أن يدعمني ماليًّا بعد إعارته إلى دولة خليجيّة. أنا لم أصرفه، احتفظت به فحسب، وضعته في واحد من الكتب، أذكر أنّ غلافه يحتوي على صورة امرأة حزينة، وربما كانت تبكي.. بصراحة لست متأكدًا، لكنّي أعرف الأشياء التي عاشت في درج مكتبي ثلاثين عامًا: صورة لهدى كمال، وقداحة لا تشتعل، وشيك انتهت صلاحيته، وبضع كتب قديمة و.. وماذا أيضًا؟؟

آه.. تذكرت.. قصاصة من جريدة، تحمل نعيًا لمحمد عبد العال، تقول إنّه عاد محمولًا في صندوق على متن طائرة مصريّة، ومنذ ذلك اليوم، نسيت شكل الكتاب، وعنوانه وصورة المرأة الحزينة.. لهذا لست مضطرًا أن أقلًب صفحات مئات الكتب في البيت لأعثر عليه. انتهت صلاحيته تمامًا، ورحل صاحبه للأبد..

ترى ما الذي تركته هناك غير ثلاثين عامًا من عمري، لم يعد لها وجود الآن؟

لا أعرف.. لكن عليّ أن أعود لأبحث عن شيء نسيته هناك.. شيء لا أعرفه أيضًا. واجهني المبني في صورة لم أرها من قبل، مبنى حديث ولامع غير ذلك الذي عشت فيه ثلاثين عامًا من الضجر. هل نسيت مقر عملي أيضًا؟

تاهت المعالم القديمة منّي فلم أعرف أين مكتبي!

حتى لو وجدته، ماذا سأقول للمدير الجديد الذي احتله، ولوث مقعدي بمؤخرته السمينة؟ بالتأكيد لن يتذكرني بعد كلّ هذه السنين؛ لأنّ كل شيء سيكون جديدًا ومختلفًا: الجدران، والمكتب، والمقعد أيضًا. لا أعتقد أنّ المقاعد الجديدة ستتحمل مؤخرته طويلًا. مقعدي القديم لم يشكُ يومًا من وطأة مؤخرتي عليه.

في مواجهة المبنى رأيت حجرة كبيرة من الزجاج، وثمة سرير مرتفع تنام عليه امرأة شبه عارية. ليست هدى كمال بالتأكيد. هي الآن على مشارف الستين. ربما صارت جدّه لحفيد في الخامسة من عمره، يذكرها بابنها، الشاهد الوحيد على لقائنا الأول بجوار بحيرة البط في حديقة الميريلاند.

الحجرة التي احتضنت فيها هدى كمال لم تكن من الزجاج. كانت حجرة عادية بجدران من الطوب والأسمنت، وبلا نوافذ فحفظت سرنا، وكتمت تأوهاتنا.

ترى.. أين هدى كمال الآن؟

ها هو عامل المصعد يقف أول الطرقة الطويلة، فكّرت أنّه سيرحّب بي، ويفتح لي باب المصعد كعادته، لكنّه لم يهتم. كان شابًّا بوجه ضحوك دائمًا، لكنّ وجهه الآن تريم عليه سحابة سوداء، كأنّه خارج من مقبرة. سألته:

_ أين مكتبي؟

ردّ باقتضاب: إذا كنت تبحث عن شيء نسيته، فلدينا حجرة نحتفظ فيها بالأشياء المنسيّة.

تقدّمني، ومشيت خلفه صامتًا. كانت الطرقة ممتدة بلا نهاية، مضيئة ولامعة، أشبه بسفن الفضاء في الأفلام الأمريكيّة. لكنّنا فجأة كنّا أمام باب معدنّي كبير. ثمة لافتة مكتوبة بخطّ كوفيّ قديم: (حجرة الأشياء المنسيّة) وأنا أتأمّلها انفتح الباب من غير أن نطرقه، فإذا بطفل وحيد في الداخل.

سألت عامل المصعد بصوت عالٍ: لماذا تضعون طفلاً وحيدًا في حجرة الأشياء المنسيّة؟

لكنّه لم يرد.. عندئذ لاحظت أنّ الطفل لم يأبه لوجودنا، لم يلتفت إلينا أصلًا. كنتُ أصرخ في عامل المصعد، فيما هو ظلّ منهمكًا في رسم صورة لشخص يشبهني قبل أن أطلق لحيتي. كانت الحجرة بلا نوافذ، لتحفظ الأشياء المنسيّة.

عامل المصعد نبّهني أن لا وقت لتأمّل الصور القديمة، وأنّ عليّ أن أبحث بين الأرفف المكتظة بالأشياء المنسيّة للمتقاعدين. ملابس، مسابح، قبعات، زجاجات عطر، أكواب وملاعق، وصور ليس بينها صورة هدى كمال.

بنظرة خاطفة أدركت أن لا شيء هنا يخصّني، لكنّه نبّهني إلى أنّ الجاكت الذي أرتديه الآن، هو نفسه المعلق على المشجب، ويخصّ شخصًا أحيل إلى التقاعد مثلي:

- لماذا أنت مندهش، كل الذين خرجوا إلى المعاش يرتدون نفس الجاكت المصنوع من لفائف الكتان.

قلت حانقًا: لفائف كتان؟ أنا لم أمت بعد.

_ لكنك ترتديه الآن!

الآن.. عليّ أن أثبت له أن الجاكت لا يخصّني أيضًا، ليس له رائحتي، وليس فيه علبة سجائري، ولا قلمي الذي كتبت به مئات الخطابات، والمذكرات القانونيّة. لأؤكد له ذلك، وضعت يدي في الجيب الداخلي للجاكت، فوجدت القلم. طافت ابتسامة ساخرة على وجهه:

- أرأيت؟ إنّه يخصك.

- لكن ليس للجاكت رائحتي.

- هل تذكر كيف كانت رائحتك وقتها.

خرجت مسرعًا، يغمرني إحساس عميق بالعدم. ثلاثون عامًا قضيتها هنا.. هل قضيتها هنا فعلًا؟ هل تلك كانت رائحتي؟ تلك رائحة تصلح لأي شيء قديم.

بمجرد أن خرجت من الباب، وجدتني في فناء واسع. أخيرًا تمكّنت من تذكّره. أخيرًا تذكّرت شيئًا ما. فناء الجامعة التي تخرجت فيها، ومنحتني أجمل سنوات العمر. كان الفناء كعادته مكتظًّا بمئات الطلاب والطالبات، يمرحون غير آبهين بما يحدث أمام أعينهم. في منتصف الفناء تمامًا. ثمة فتاة تنزف، وتصرخ، بجوارها طفل ذكرني بذلك الذي رأيته في حجرة الأشياء المنسيّة. وثم شاب يحاول أن يصل إليها، يخوض بركة واسعة من الدماء المتجلّطة على الأسفلت. بدا هلعًا، فيما كانت هي ترتعد، وتنزف.. تنزف بلا توقف. رحت أصرخ في الجميع، أن يهبوا لنجدتها، لكن أحدًا لم يسمعني، إنّهم لا يسمعون صوتي، ولا يرون بركة الدماء، ولا.. فقط شاب وحيد يدور حول بركة الدم المتجلطة، صرخت فيه: أيها الشاب، أوقف ذلك النزيف.

أخيرًا.. تمكن الشاب من عبور بركة الدماء، ضمّ الفتاة إلى حضنه فصفق الجمهور، وأطلق البعض صفيرًا مبهجًا، فيما هي كانت ترسل إليهم قبلاتها، تلوح بيدها، وتمنحهم ابتسامة كتلك التي منحتها لي هدى كمال وهي عارية بين يدي..

كان الشاب ينحني للمصفقين بامتنان، عندئذ فقط لاحظت أنّه يرتدي نفس الجاكت الذي وضعت فية علبة سجائري، وقلمي الذي كتبت به مئات المذكرات القانونيّة، فيما كان طفل الميريلاند، يقف خارج المشهد، ويبكي وحيدًا.



bottom of page