top of page

الغيم والنبع يكتبان أغنيـة الأهمش نحـو الخلـود

تاريخ التحديث: ٦ ديسمبر ٢٠٢٣


معتصم الأهمش
الشاعر السوداني معتصم الأهمش (١٩٩٢-٢٠٢٣)

أسامة تاج السر
أسامة تاج السر - السودان

في عَقده الثالث رحل عنا شاعر الشباب معتصم الأهمش، مخلّفًا إرثًا أدبيًّا مهمًّا، تمثّل في دواوينه الثلاثة (كفتان تشقان صدر السماء)، و(أسطورة العشاق)، و(تدور المرايا على النبع). مشفوعة بثلاث جوائز مهمّة: شاعر الجامعة، وشاعر الجامعات السودانية، وشاعر أفرابيا.

وما بين ديوانه الأخير، وقصيدته ذائعة الصيت (قداسة الغيم)، محور هذا المقال، كتب الأهمش أنشودته نحو الخلود.

أسامة تاج السر- السودان

انهزم الشاعر السوداني الشاب معتصم الأهمش (1992 ـ2023 ) تحت وطأة المرض، فلم يكمل دراسته للهندسة في جامعة الخرطوم، وعلى الرغم من ذلك حقق ثلاث جوائز هي: شاعر الجامعة 2015، وشاعر الجامعات السودانيّة 2017، وجائزة مهرجان الشباب الإفريقي العربي "أفرابيا". كما كان أحد وجوه منتدى "نبضات دافئة" الذي اتّخذ من دار خريجي جامعة الخرطوم مقرًّا له. ومن أعماله "كفّتان تشقان صدر السماء"، و"أسطورة العشاق" و"تدور المرايا على النبع".. وفيما يلي قراءة في نصه "قداسة الغيم" تلويحة محبة إلى روح الشاعر الشاب.

1.يحيل العنوان (قداسة الغيم) إلى الطهر والنقاء، فالقدوس من أسماء الله الحسنى، وتعني الطاهر المنزه. والقداسة: الانعزال عن الخطيئة. والغيم: السحاب. فالعنوان يحلق في الأفق، مع هالة من تصوف.


(1) وقفتُ خلفَ السَّحابِ مُستترا


أصبُّ مـــاء القصيدِ كيفَ أرى

أخــطُّ دربَ البروقِ فـي لُغــةٍ


تُقيــلُ وقــعَ الظــلامِ ما عثرا

وكلمَّـــا أثقـــلَ الحنينُ دمي

هبطتُ كالنيزكِ الذي استعرا

كثُرَ حديثُ الشعراء عن إعادة تشكيلهم الحياة، فقد صوّروا العالمَ من زوايا نفسيّة بعيدةٍ، تجعلهم مركز الكونِ، حين رأوا الحياة تتفلّت من بين أيديهم، وتحيلهم هامشًا غامضًا ومربكًا! فوقوا يصورون الحياة وفق رؤيتهم ورؤاهم. فهذا التجاني يوسف بشير يصور الحياة، ويجعل من نفسه مركزًا لا هامشًا:


التجاني يوسف بشير
التجاني يوسف بشير

من لِهذا الأنامِ يحميه منّي؟ قلمي صارمي، وطِرسي مجنّي! هو فنّي إذا اكتهلتُ، وما زالِ على ريِّقِ الحداثة فنّي!

إنّها ثورة الحياةِ، فمن للكونِ

يحميه من قذائفَ رُعنِ


إنّها ثورة الشّبابِ، فمن يدرأُ

عن نفسِه الغداةَ، ويُغني


لم أجد كالشباب يبسًا مراعيه، وما كالصبا أقر لعيني يفرحُ الطينُ في يديَّ، فألهو جاهدًا أهدمُ الحياةَ وأبني كم أشيدُ الحصى قصورًا، وكم أكبِرُ من شأنِها وأقْدِرُ شأني!! وطني في الصّبا الدُّمى، والتماثيلُ، ونفسي، ومن أحبُّ، وخدني!!

فهو - وإن كان فقيرًا معدمًا - إلا أنّه يرى نفسه أغنى الناس بفنّه، قد جعل الحياة طينة طيّعةً بين يديه، يصوّرها كيف يشاء!

وهذا إدريس جماع، يصوّر الحياة كما يراها، من مرآة نفسه لا من مرايا الآخرين:



إدريس جماع
إدريس جماع

ماله أيقظَ الشجونَ فقاستْ وحشةَ الليلِ، واستثارَ الخيالا!!

ماله في مواكب الليلِ يمشي

ويناجي أشباحه والظلالا!! هيّنٌ تستخفُّه بسمةُ الطفلِ

قويٌّ يُصارعُ الأجيالا!! حاسرُ الرأسِ عندَ كُلِّ جمالٍ

مستشفٌّ من كلِّ شيءٍ جمالا!! ماجنٌ حطّمَ القيودَ، وصوفيٌّ

قضى العمرَ نشوةً وابتهالا!! خُلقتْ طينةُ الأسى فغشتْها

نارُ وجدٍ فأصبحتْ صلصالا!! ثم صاحَ القضاءُ كوني فكانتْ

طينةُ البؤسِ شاعرًا مثّالا!! عند التجاني كانت النظرة لما هو أرضي، وهو ما يوازي الواقع الذي يريد الشاعر الهرب منه، والالتحام به في ذات الوقت. ألا ترى أن التجاني إذا أراد الهرب لهوّم بعيداً كجماع والأهمش؟ لكنه يهرب من واقع حاضر إلى واقع كان موجودًا ومألوفًا، وهو الصورة التي اختزنتها الذاكرة من ألعاب الطفولة، بمعنى أن التجاني كان يتمنى أن لو استطاع أن يحقق في شبابه ما كان قادرًا على تحقيقه زمن الطفولة. ولذا فهو يعود بالزمن إلى الطفولة، إلى وقت أن كان زغبًا صغيرًا لم تكن له أجنحة تحمله على التحليق. ومع هذا الضعف، إلا أنّه يجعل الأمر ثورة عارمة، يهدم فيها الواقع ليبني بدلًا عنه المدينة الفاضلة - كما يراها هو لا كما يراها أفلاطون - التي تجعله ذا قيمة فاعله.

أمّا جمّاعٌ، فيقابل بين حال الشاعر الحالم وواقع الحياة، فيهرب منه إليه مثل التجاني ـ ولا يداخلني شكٌّ في شدّة إعجاب إدريس جماع بشاعريّة التجاني، وقصيدته التي صدر بها ديوانه لحظات باقية بعنوان (من دمي) شديدة الشبه بشعر التجاني ـ ولكنّه لم يثر ثورة التجاني، بل كان مشفقًا على الكون، وكلّ ما فيه، فهو لا يفتأ يبحث عن الجمال في كلِّ شيء، ولا يفتأ يتعجّب من كلِّ ما يراه ويحسّه، بل ويخرجه في الصورة التي يراه عليها، ولا كرؤية الآخرين!! فهو: هيّن وقويّ، وهو ماجن وصوفيّ، وهو الشيء في الخيال ونقيضه في الواقع. وإذا كان التجاني في هربه منكفأً على وجهه لا يرى غير الطين ـ العنصر الأول لعمليّة خلق الإنسان ـ مكتفيًا به، بين هدم: (يحميه، وصارم، وطرس، ومِجن، وثورة، وأهدم) وبناء: (فني، وريق، والحداثة، ومراعي، وأقر، ويفرح، وألهو، وأبني، وأشيد، وقصور، وأكبِر، ووطني، والدمى، والتماثيل، ونفسي، ومن أحب، وخدني). فإن إدريس جماع باسطًا جناحيه محلّقًا ينقل لنا صور الأرض من الفضاء، فانظر إلى هذا القاموس اللامرئي عند إدريس جماع: (الشجون، والوحشة، والليل، والخيال، والأشباح، والظلال)، ألا ترى معي أنّ المعجم محلقٌ، يترك ظلَّ مفقود لا موجود؟ ويقابل ذلك عنده من الحركة والخلق: (أيقظ، واستثار، ويمشي، ويناجي، وتستخفه، ويصارع، وحطم، وقضى، ويتغنى، ويُشجي، وصاغ، ويسكب، وشاد، ودك، وينفح، ويفنى) وهو في حركته كالمحتطِب، يذكر لك كل ما قابله من متناقضات تنتمي إلى العوالم الثلاثة: الأرض، والسماء، وما بينهما من فضاء. مازجًا بين ما يفرح القلب وما يدمي الكبد: (المواكب، والبسمة، والطفل، وقوي، والأجيال، والجمال، والقيود، والصوفي، والنشوة، والابتهال، والطينة، والأسى، والنار، والوجد، والصلصال، والقضاء، والشاعر، والمثّال، والرياح، والخميل، والتلال، والربوة، والمنبر، والألحان، والرمال، والقصور، والعود، والعطر، والتحرق، والاشتعال). أما معتصم الأهمش فكان أكثر قوة من كليهما، من التجاني، ومن جماع، والصورة معكوسة، أي كلّما زاد النقص كان السعي إلى الكمال شديدًا. فالأهمشُ يأخذ دور ميكائيل، والشِّعر هو الرزق، فهو مستتر ـ وسنرى هذه الدلالة لاحقًا ـ في عالم ميتافيزيقيّ ـ كالملائكة تمامًا ـ فهو بين (السحاب، والماء، والبروق، والنيازك).


معتصم الأهمش

وعلى إطالة وقفتنا عند التجاني وجماع، فقد أردنا لوجودهما - المهمّ - أن يكون صاحبًا ورفيقًا في هذه الرحلة، لما بينهما وصاحب النّص من شبه من ناحية، ولما لشعره بشعرهما من نسبٍ وقربى وجمال!

كان التجاني منكفئًا على الأرض، بينما وقف معتصم فوق السحاب، بينما مرَّ جماع على العوالم الثلاثة!! وأن ثلاثة النص تتحدث عن قلق الشاعر، وهربه من الواقع إلى واقع موازٍ يصنعه بنفسه وفق رؤيته وما يملك من أدوات، وما يريد إيصاله من فِكَر؟ فالخلق عند التجاني ثورة، وعند جماع تحليق، وعند معتصم خروج عن كلّ قيد، فأفعاله: (وقفت، أصب، كيف أرى، أخط، هبطت)، تشير إلى أنّه في موقع المسيطر على الأحداث، ويريد أن تكون الحياة كيف يرى ويريد، وإذا سقط فكما يسقط النيزك! ألم يقل التجاني يوسف بشير يومًا:

ما زلت أكبر في الشباب وأغتدي وأروح بين بخٍ ويا مرحى به؟ حتى رُميتُ ولستُ أول كوكبٍ نفث الزمانُ عليه فضل شهابه!

إنّه سقوط الشاعر في عالم هو صنع يديه!

2. (ورحتُ،

كان الرصاص يتبعني يسبقني للحلمِ كلما ظهرا)

ينقلنا معتصم الأهمش من العالم الماورائي إلى السقوط، إلى عالم الجسد بعد الروح، ألا تراه الآن تحول من صورة ميكائيل ـ خلف السحاب مستترا ـ إلى صورة آدم عليه السلام؟ فهو سقط نيزكًا مستعرًا؟ ولكنّه السقوط إلى الأرض، كما سقط آدم من الجنة إلى الأرض، فظهرت الغريزة، وظهرت الشهوة. فكانت ليلى - وما لها من رمز صوفيّ ـ هي حواء ذاتها. وسيتحول الرصاص إلى إبر الدموع.

3. (وروحُ ليلى المِرآةُ في بَشَرِي

دَخلتُ فيها…

فغِبتُ...

وانحسرا فالحزنُ حاكتهُ كفُّها لغدي والدمعُ يهمي من عينِها إبرا بذرتُ فيها الأحلام مثقلةً وقلتُ: هُزِّي السماء جذع ذرى ولتسكني،

إن رحلتُ في زمنٍ لا يُمعنُ الطرف نحو من عبرا!! ما اهتزَّ حرفٌ في عمقِ طينتها من كلِّ غصنٍ سيرتمي قمرا وكلَّما ارتجَّ في المدى أفقٌ تنزلَّ الشِعرُ يُنبِتُ الشُعرا)

تعود لغة السماء إلى السطوع، لم يمنعها السقوط نيزكًا على الأرض. بل إنّ النّصَ يسمو، ويجاهد الشاعر في سبيل العودة إلى موقعه الأول (المِرآة، دخلتُ، غبتُ، انْحسرا) ألا يذكرنا كلُّ ذلك بالاستتار خلف السحاب؟

فقد - كان أول أمره - مستترًا خلف السحاب، والآن خلف ليلى، وليلى مرآة، وبين المرآة والسحاب واشجة لا تنفصم، ثم دخل في المرآة، وغاب، وانحسر روح ليلى! أليست هي عودة إلى البداية؟


معتصم الأهمش

وقد جمع معتصم الأهمش بلفظة الروح بين دلالتين، فروح الشيء جوهره، وإذا أراد بها المُهجة فهي مؤنثة، وإن أراد بها الطابع والسمت فهي مذكر، فأيّ المعنيين أراد الشاعر؟

ههنا توحّد المعنيان؛ لأنّ العالم ميتافيزيقيّ، ولأنّ الروح والمرآة كلاهما شيء أثيريّ الهالة لا يدرك. فالذي يقف أمام المرآة يخترقها، فتكون كالبرزخ يفصل بين شيئين، والشاعر في استغراقه يتحول إلى هالة أثيريّة تخترق المرآة ـ ليلى ـ فتتوحّد بها. وفي الوصل قد يضيع الوصول!! فهو وإن توصّل إلى الاتحاد بروح ليلى، إلا أنّ الحزن يغمره، فانظر إلى هذا الإحساس الذي لم يكن موجودًا وهو بعيد: (الحزن، والدمع، والإبر)، فالعين ترى الأشياء التي بينها وبينها مسافة، ولكنّها لا ترى ما يسقط فيها، أو قلّ لا ترى ذاتها. وأيّ نزعة صوفيّة عالية جدًّا في هذين البيتين!! وهذا هو الخيط الخفي الذي يسوق النّص من عنوانه إلى آخره. ثم تُطلُّ قصة ميلاد المسيح، ومخاض مريم، وهز الجذع: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) سورة مريم. ألا يساوي قوله بذرت فيها الأحلام مثقلة قصة النفخ؟ وإن كانت مريم تهزّ جذع نخلة فإن ليلى تهزّ جذع السماء. وذا لأن مريم ستلد طفلاً، أما ليلى فمولودها: (الوجد، والقلق، والفكر، والشعر). فهو يريدها أن تسكن إذا رحل؛ لأن هذا قدره وقدرها. فزمانه لا ينظر إلى شيء غابر. ولكنه هل سيخلي مكانه إن غبر؟ لا ننسى أنه عندما سقط كان سقوطه سقوط نيزك، فهو إن سقط فلن تتوقف المجرة لذلك؛ لأن ضوءه منتظم لم يفقد مكانه. وهذا المعنى يكشفه صلاح أحمد إبراهيم، حين يقول في معلقة الموت الخالدة (نحن والردى):

(رب ضوء لامع من كوكبٍ

حيث انتهى ذلك الكوكب آلافًا وآلافًا سنينا) ثم انظر إلى معاني السقوط: (هبطت كالنيزك الذي استعرا) (من كل غصن سيرتمي قمرا) (تنزّل الشعر ينبت الشعرا)

فبين هبط وارتمى وتنزّل، وعلى الرغم من التحامها بالأرض ـ عالم التجاني في قصيدته ـ إلا أنّها تظل محلّقة إلى أعلى، كأشباح جماع وظلاله. ولذا سبقت الإشارة إلى أنّ النص لم يخرج عن السحاب والمرآة، حتى عندما يصطدم بالواقع ويسقط. وانظر إلى تنزّل وما يرتبط بالوحي.

4. (كم مرَّ بالصخرِ ... حينَ صدَّع في قساوةِ الصخرِ خافقًا عطرا وإذ رأى العتم في الوجودِ سرى أشاح لي النور ... حيثُ ليس يُرى قداسةُ الغيم خلفهُ ابتدأت طُفولة الغيب

تنتشي خدرا بنجمةٍ تُرسلُ البريق خطى

ترتلُّ العمرَ في المدى سُوَرا حيثُ البدايات لانفلاتِ دمي

لرعشةِ النورِ

حينَ لاح قُرى)


يلوح هذا الإظلام المؤشّب، بعد أن اتَّحد بليلى واتّحدت به؛ لأنّ الشيء الذي يسقط في مركز الإبصار يحيله إلى ظلام دامس: (الصخر، والعتم، وخلفه، وطفولة الغيب،) أليس كل ذلك ليلى؟ فالصّخر له خافق عطر، والعتم أشاح لي النور حيثُ ليس يُرى! وما كان خلفه هو قداسة الغيم، وهو الاعتزال عن الخطيئة، ومعنى قوله (قداسة الغيم خلفه ابتدأت) مساوية لقوله (وروح ليلى المرآة في بشري) ؟ وإذا أنت قابلت هذا الضباب بما يجاوره لرأيت صورة علوية سماويّة (النور، نجمة، بريق، رعشة النور). ثم انظر لقوله (عطرا، تنتشي، ترتل، رعشة) ألا تشعر بلذة غامرة، وشهوة روحيّة عارمة؟. ألذا قال التجاني:

ربَّ صلبٍ من صخرِها ظلّ يندى

وعصيٍّ من عودِها لم يُعاسِرْ!

نفّضَ الصخرُ ما استحالَ به صخرًا

صليبًا، من القُوى والعناصرْ

وتخطّى حدوده كلُّ معنًى

حجرِيٍّ، وساوَقَ اليدَ نافر!

ساعة يخلدُ الرّضا في ثوانيها

ويحيى في كلّ خفقةِ خاطر!!

كان التجاني ههنا في مُوحاه، وهنالك في عالم خلقه، وكان جماع في لحظة تأمله الحياة/ الشعر، وكان صلاح أحمد إبراهيم يقف في برزخ الحياة، بين الأحياء وبين الأموات، وأربع القصائد جميعها تصبّ في محيط واحد، وتربط بينها إحدى التفعيلتين المركزيَّتين (فاعلاتن) في رمل صلاح، وخفيف التجاني وجماع، و(مستفعلن) في منسرح الأهمش، وخفيف التجاني وجماع. وإن نحن دققنا النظر في المنسرح لاستطعنا العثور على (فاعلاتن) متخّفية بين (مستفعلن ومفعولاتن)، التي يتوهّما العروضيّون!! وعندي أنّ المنسرح والخفيف والمديد، بحور بينها شبه لا يخفى، وربما بدأ الشعراء التجريب بالمديد، لعسره وقربه إلى النثر، فطورّوه في المنسرح، ثم توصّلوا إلى العذوبة الكامنة في الخفيف، والرقة البالغة في الرمل! ما يجعلنا ننظر إلى الأغراض واختيارها أوزانًا مساوقة لها لإبراز المعاني.

5. (ما قلتُ للريحِ أنتِ راحلتي لا قلتُ للشمسِ أشرقي لأرى توشحي الدرب... غبتُ خلفكِ... ما لا مستُ عيْنيك... ما انتهت سفرا كأنّني والمدائنُ ارتحلت

تغوصُ في التُّربِ، والفضا قُبِرا ملائكٌ بالغمامِ في ظُللٍ ... وكانَ فينا ملائكُ الفُقرا هُرعتُ للأمس... كان أبعدَ من روحي البعيد البعيد حين سرى)

ما قلت للريح أنت راحلتي! ومن غير سليمان عليه السلام قال ذلك وفعل! ههنا نستشعر التّناص الخفي بين معتصم الأهمش وإدريس نور الدين ـ في قصيدته "فرت سماء من يدي" إذ يفتتح إدريس قصيدته بقوله: (أتيتُ من غوائل الكهوفِ راكبًا سحابة بيضاء) فهنا إدريس يجعل السحابة راحلة، والأهمش لم ينفِ اتخاذه للريح راحلةً إلا ليثبته. وإذا كان النفي إثبات مع الريح ـ لأنّها عنصر لا يمتّ إلى القصيدة بصلة، وكأنّها ضيف شرف في هذا المسرح العظيم - فإنّ نفي طلب الإشراق من الشمس حقيقي، لأنّه في عالم من النور لا يلتبس بالظلمة، فهو لا يحتاج الشمس حتى يرى. وهذا معنى قوله (غبت خلفك) ألا يذكرنا هذا بليلى؟. ثم تلتحم السماء بالأرض، فيستحيل الفضاء قبرًا! وهو إعادة أخرى إلى قوله (قداسةُ الغيم خلفهُ ابتدأت طُفولة الغيب تنتشي خدرا) ولفظة ابتدأت في هذا الجو تناص خفي مع قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) الأنبياء. وقد وقفنا في أول القصيدة على أن الشاعر في محاولة لخلق عالم جديد، موازٍ للواقع الذي يهرب منه ويفر. ثم يتسع التناص بصورة أوضح، وما أجمل المقابلة: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ ۚ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) البقرة. ثم يختم هذا المقطع بالهرع إلى الأمس، وهو ما فعله التجاني بالهرع إلى الصبا، وما فعله جماع بالهرع إلى الطفولة، وما لا يزال يفعله الأهمش من أول القصيدة. وبُعد الأمس ـ مع شدة اقترابه ـ هو الغياب في المرآة، وهو الاتحاد بليلى دون شك!

6. وعدتُ،

ظلي القصيد... طار إلى مكامنِ السدر

يقطفُ الثمرا إذ قيلَ ما قيل... قلتُ: ... صمت صدى وأبلغُ الصمتِ أن ترى الصُوَرا لا تشربِ الكأسَ... بل عِها سَكرًا ولتسكبِ الروحَ في الكؤوسِ قِرى

هنا كانت العودة إلى ما قبل هبوط النيزك، وهي العودة التي لم يستطعها أبو البشريّة آدم، إذ هبط من الجنة ولم يستطع العودة مرة أخرى وهو جسد وروح؛ وما ذاك إلا لأنّه كان يعيش في عالم طبيعي؛ ولأن الأهمش في النص كان يعيش عالمه صنع يديه، استطاع العودة مرة أخرى بعد أن كان سقط نيزكًا، وهو ما يجعلك متسائلًا: لماذا يا ترى خصّالسدر دون غيره؟ أليست السدرة ـ وإن جاءت بصيغة الجمع ـ هي سدرة المنتهى؟ وأين موقعها؟ أليست في علوها الذي أشرنا إليه أكثر من مرة في القصيدة؟ والصمت الذي نرى فيه الصور، أليس هو وجه ليلى المرآة! ثم يختم القصيدة ببيت لا أحب أن أفسده بالشرح أو التحليل، فهو يشرح نفسه بنفسه:

(لا تشرب الكأس بل عِها سكـــــراً

ولتسكبِ الروح في الكؤوسِ قِرى)!

بهذه القصيدة كتب معتصم الأهمش خلودَه بنفسه، وهو يحلق تحليقًا بعيدًا جدًّا، وما من بحرٍ مُقيِّدٍ كالمنسرح في بحور الشعر كلّها، ومع ذلك استطاع الأهمش أن يمدّ رجليه ما شاء، كما قال أبو حنيفة النعمان. معتصم الأهمش يغرّد وحيدًا من بين كلِّ شعراء السودان في الألفية الثانية في كتابة القصيدة بكلّ أشكالها، وبمهارة فائقة: قصيدة العمود، والتفعيلة، والنثر، وهو مكثر في كلّ ذلك، ومجيد في كلّ ذلك. فمن يكتبون قصيدة النثر لم يبلغوا شأوه في العمود، ومن يكتبون العمود لم يبلغوا شأوه في النثر، وها هو يصير امتدادًا لرحيل النوابغ في سنّ صغيرة: التجاني يوسف بشير، معاوية محمد نور، الأمين على مدني، ولئن كان ثلاثتهم لم يبلغوا العقد الثالث من العمر، فإنّ الأهمش عاش عمرهم، وما تبقى منه كانت تتوكأ فيه عليه الأدواء، تأكل من نفسه وروحه، منسحبًا عن الناس، مستترًا وراء الغيوم، يصبّ ماء الشعر كيف يرى!




bottom of page