top of page

أوضح المسالك إلى أعظم الممالك.. «حديث عن دور الأدب في تشكيل الوعي الإنسانيّ»

تاريخ التحديث: ١ نوفمبر ٢٠٢٣


إبراهيم طلحة
د. إبراهيم طلحة

ممالك الأدب والمعرفة هي أعظم ممالك الدنيا، والوصول إليها يتم من خلال مسالك النصوص الإنسانية العليا..

ما الثقافة إن لم تكن سلوكًا وفِعلًا إنسانيًّا؟!!

وهنالك العديد من حلقات العمل البحثي الأكاديمي، وندوات الاشتغال التوعوي الإعلامي حول مسألة: الأدب العالمي، وحاجتنا إليه في عصر التّدافع الحضاري، وسبق للكاتب العمل والاشتغال ضمن هذه الأشكال الحراكية المتعلِّقة بجهود المقاربة ما بين الاتّجاهات الأدبيّة ذات البُعد الأيديولوجي، كان من بينها ندوة إقليمية، نظّمتها مؤسسات أكاديمية جامعيَّة، وهو ما استدعى فكرة استئناف الكتابة هنا في سبيل الخروج إلى آفاق مثاقفات جديدة من أجل بثّ ثقافة المشترَك الإنساني، قدر الإمكان.

إن تصنُّع حالة الوعي - إن أعجزتنا صناعتها - تجاه ثقافة العصر الحديث بتجاذُباتها، هي ضرورة ملحّة وسط كمّ هائل من التّصارع الدّيني والمذهبي والطائفي غير المستحبّ؛ ولعلّنا جميعًا نتذكّر قول البرلماني السُوداني الراحل محمد إبراهيم، في ما يشبه صدد وسياق ما نحن فيه، مخاطبًا وعي أنظمة السّلطة:

"إذا حكمني مسلمٌ فلن يدخلني الجنة، وإذا حكمني ملحدٌ فلن يخرجني من الجنة، وإذا حكمني من يُؤمّن لي ولأولادي العمل والحرّية والكرامة وعزة النفس فسأقف له احترامًا وإجلالًا، ويبقى دخول الجنة من عدمه رهين إيماني وأعمالي، فقفوا عن التنازع على السلطة باسم الدين، مُعتقدين أنها طريقكم إلى الجنة، فليست وظيفةُ الحكومة إدخال الناس الجنة، وإنما وظيفتها أن توفِّر لهم جنةً في الأرض تعينهم على دخول جنة السماء".

هو وسلطة الوعي صنوان هنا، وهي حالة متقدِّمة يصعب حدوثها ما لم تكن القلوب والعقول على درجة من الانفتاح على الآخر، والتأدُّب بأخلاق الحوار والخلاف، فالأدب العالَمي الذي فرضته ظروف العولمة والعصر الحديث بتكنولوجياته المشرَعة على عوالم الإنسان، ليس وليد اللحظة، وإنما يجيء امتدادًا لحالة التخلُّق التي كانت منذ وجدَ الإنسان؛ ففي البدء كانت الكلمة.

وباديَ الرَّأي نستحضر قول بعض الأدباء: "إن العالَم عاش قرونًا بلا عِلم، ولكنه لم يعش يومًا واحدًا بلا أدب"، مستدلين على ذلك بأن كلمة الحب الأولى ومشاعر الإنسان وأحاسيسه بدأت منذ كانت اللحظات الأولى للخليقة، أي منذ آدم وحواء، حسب علي الطنطاوي (أديب الفقهاء وفقيه الأدباء، كما يُعرَف)، في صوره وخواطره وقصصه التي دوَّنها.

وهذا الكلام بقدر ما قد يبدو تعارضًا بين العلم والأدب، إلا أنه يعني التكامل بينهما أيضًا مع أسبقية الأدب.

لقد جاء الأدب أوَّلاً وجاء العلم ثانيًا، أو هكذا تقديرات أهل البحث الآثاري الأركيولوجي، والدرس التاريخي الفيلولوجي، وكانت الثورات الإنسانية المتعاقبة مزيجًا منهما، فقد حملت قيمًا وأدبياتٍ، في سبيل تفوق المعرفة الإنسانية بوصفها منظومة متكاملة، وفي سبيل إسهامها في تعزيز حياة البشر.

وفي كل الأحوال، فإنِّ الذَّاكرة الإنسانيّة بآدابها وعلومها وتراثها الشّفاهيّ حتى، لا تختلف مع تاريخ الإنسان في مراحله البدائية، كما يرى المهتمُّون.

ومن المعلوم أنّ كلمة (الأدب) حملت مدلولاتٍ أخلاقيةً، ترافقت مع المدلول الاصطلاحي، بل لنقُلْ: إنها سبقته.. ونتذكر في هذا السياق الحديث النبوي الشريف: "أدَّبني ربي فأحسن تأديبي".

كما أن الثقافات بمختلف انتماءاتها وتشكيلاتها غالبًا ما يكتنف مفاهيمها التداخل والتعالق مع مفهوم الأدب؛ فقد ارتبطت معظم المسميات الثقافية بمصطلح الأدب، وأصبح لا يُقال: مجاميع ثقافية - على سبيل المثال - إلّا ويشار في صددها إلى الأدباء والكُتاب.

ولعلّ أقرب معنى اصطلاحي للأدب هو ما قال عنه (دوستويفسكي): "محاولة معرفة الإنسان في الإنسان"، أو على حدِّ تعبير الدكتورة/ ماجدة حمود: "الجوهر المشترك للإنسان". (مقاربات تطبيقية في الأدب المقارن، درلسة، د. ماجدة حمود، اتحاد الكُتّاب العرب، 2000م، المقدّمة).

أمّا جدل التسمية أو المصطلح فلا مشاحة فيه، كما يقال، وإن كانت التسمية بحدّ ذاتها - ونظرًا لخضوعها لعمليات تطور لغوي على مراحل - قد أصبحت مضللة؛ كونها ليست اختيارًا نابعًا من ذات الأديب، بل هي ناتجة عن مخاضات داخلية، ووليدة معاناة الأديب والناقد لدى البحث عن مفاهيم ومصطلحات في أثناء الوقوع في ملتقى طرق ثقافات متعددة عند الأمم والشعوب، يعدُّ الأدب لدى كلٍّ منها مفهومًا خاصٍّا، وله خطابه، وذلك ما أشار إليه نبيل سليمان في نقد النقد الأدبي؛ حيث أكَّد أن البحث عن مفهوم عام للأدب إنساني الطابع يمرّ من خلال الكتابة النقدية وما يتولد عنها حال تجريب المفاهيم المرافقة. (مساهمة في نقد النقد الأدبي، د. نبيل سليمان، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1983م، ص 68).

إنَّ أهم ما في الأدب من حيث القيمة، هو الوعي المغاير للوعي الجمعي، والمعيد لتشكيل هذا الوعي، فالأدباء هم صُنَّاع الفكر، وصناعة الفكر في مراحل التدرج الحضاري تأتي قبل صناعة الأدوات والوسائل التي يستخدمها الإنسان في حياته اليومية؛ فصناعة السيارات والطائرات والسفن والقطارات، وصناعة الأقمشة والملابس، وصناعة الأدوات المنزلية والمكتبية، إلى آخر قائمة الصناعات لم تكن لتكتمل لولا وجود شكل ذهني أوَّلي أدى إلى تطور أدوات الحضارة إجرائيًا؛ كما أنه لا يمكن أن تساعد الأدوات والوسائل في تحسين معيشة الإنسان إذا لم يرافقها تصنيعٌ للوعي.. فمثلًا: هل يمكن أن تكون صناعة الأسلحة الفتاكة والمدمِّرة أحد أسباب رخاء البشرية وسعادتها؟

الجواب هنا بالطبع: لا.. وهل أكثر نكباتِ العالم وأكثر انتكاساته إلَّا بسبب الحروب والصراعات التي نجَمَتْ عن رغبة الإنسان الجامحة في السيطرة كلما امتلك السلاح والقوة؟! وقس على ذلك.

وإذن، فإنَّ جزءًا كبيرًا من مهمَّة الأديب هي صناعة الوعي الإنساني ورفد دعوات المحبة والسلام، تأكيدًا للمبدأ القائل: تعايشوا تعيشوا..

ويعنُّ لنا تساؤلٌ عن كيفية إسهام الأديب في صناعة الوعي حال انحيازه أيديولوجيًا لهذا الطرف أو ذاك، والجواب عن هذا التساؤل: أنَّ الأديب الحقيقي تكون لديه - في الغالب - نزعة استقلالية وإن انتمى لأيديولوجيا معيَّنة، ومن هنا وُجد بعض الأدباء العالميين الذين تجاوزوا المحلية إلى القومية وصولًا إلى العالمية، أمثال (غوته) و(نيتشه) و(فيودور دوستويفسكي)، ويمكن أن نقول أيضًا: أمثال نجيب محفوظ وطه حسين، فلا بد من رؤية مستقلة لدى الأديب سواءً أكان من أنصار مدرسة الفن للفن أم من أنصار مدرسة الفن للحياة.. رؤية تستند إلى التكوينات المشتركة بين الشعوب والأمم، وترقى إلى مستوى المسؤولية القيمية لتعزيز روح التسامح والتعايش والتثاقف بين الحضارات.

وعودًا على بدء فإن الأدب بتكوينته اللغوية المغايرة يعد سلاحًا خطيرًا جدًا، وربما أقوى سلاح اخترعه الإنسان، على حد رأي الأديبة والكاتبة الفلسطينية عفاف خلف التي ترى اللغة والأدب أقوى الأسلحة. سلاحٌ لا يمكن هزيمته؛ لأنه موجَّهٌ لصناعة السلام لا لإثارة الحروب.

كل ما نحتاجه هو وعي كافٍ بكيفية استخدام هذا السلاح في مضامير الحياة.

بمعنى آخر، وعلى حد تعبير الدكتور والباحث الأكاديمي المصري سامي سليمان أحمد في (ثقافة العولمة): "لعل من المفيد ملاحظة أن تحول الزمن إلى حركة اعتيادية قد ازداد تأصلًا"، ومضمون كلامه يوحي بضرورة الانتباه إلى مواكبة التغير الزمني بوعي اجتماعي جديد.

كذلك قالت الدكتورة يُمنى طريف الخولي في كتابها (العلم والاغتراب والحرية) - ضمن سلسلة اقرأ الصادرة عن وزارة الثقافة بمصر - : "هذا العالم الذي نحيا فيه ليس ينفي الحرية وليس يناقض مقتضيات التجربة الإنسانية، ووصل الأمر بالعلم المعاصر إلى حد الاعتراف بالحرية الإنسانية بوصفها ظاهرة أخرى"، مشيرة إلى أن التغيرات والعمليات التي تحدث بالفعل هي التغيرات التي اتخذت اسم القوانين العلمية، المصطلح عليها، ومعظمها يتكئ على رؤى فكريةٍ نابعةٍ من الآداب الإنسانية العالمية.

وأيًّا يكن الأمر، فإنّ تخلُّق مفهوم جديد ذي بُعدٍ إنسانيّ للأدب، يستلزم إضفاء طابع تعايشي على مفهوم الأدب اصطلاحًا، وهو ما حاول أن يبيّن ملامحه بعض الأدباء العالميين، أمثال (لويك ديبيكر)، لدى حديثه عن علاقة الرمز بالمدلول وارتباطهما بالتصور، ومن ثم المصطلح بصورة عامة. (الرمز بين المدلول والتصور ضمن المعنى في علم المصطلحات، لويك ديبيكر، ترجمة/ ريتا خاطر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009م، ص 145).

فنعود لتأكيد دور مادَّة الأدب في صناعة وعي الإنسان، بل إنَّ الآداب بتصنيفاتها المختلفة - بما فيها الدِّينية - يجب أن تتَّجه نحو صناعة الوعي، وهذا ما يؤكِّده كثير من روَّاد ما يُعرَف بالأدب الإسلامي، فالقرآن الكريم - على سبيل المثال - كتاب متكامل أسهم في إعادة تشكيل الوعي الجمعيِّ للعرب، وليس مجرد أحكام أو نصوص معزولة عن الحاضن الاجتماعي لها، فامتداد التشكيل الاجتماعي العربي واضح من خلال لغة الخطاب في التّنزيل العزيز..

إذ إنّ النص القرآنيُّ وحدة متكاملة لا يمكن فصل النواحي الروحية فيها عن النواحي المعيشية.

ويظل من الضروري على الإنسان - وعلى الأديب خاصة هنا - تفعيل آلية اشتغاله على مفردة الوعي من زاويةٍ مناسبةٍ لموقعه هو؛ فالشاعر له دوره، والروائي له دوره، والناقد له دوره، وهكذا.

ثم لنتذكر أنَّ الثورات الأدبية دائمًا ما رافقتها - أو لنقُل بتعبير أصح - سبقتها أشكال ثورية تنموية كالثورة الفرنسية، وأثرها في أوروبا، ومراحل تكوين الثورة الصناعية.

كذلك كانت دولة الأغالبة في إفريقيا قد وجدت لها أساسات قامت عليها من جراء سلسلة وقائع وأحداث فتشكلت دولتهم الجديدة نتيجة ثورات فكرية وأدبية سبقت قيامها ونشوءها، وبعد ذلك قامت نهضة علمية وأدبية كبيرة في القيروان ومناطق حكمها.

والأمر نفسه ينطبق على كثير من الثورات التي سبقت بمراحل زمنية تواريخ قيام الدول في عصورها الذهبية.

والأُمّة الإنسانية كلها - وليست العربية والإسلامية فحسب - اليوم أشدّ ما تكون حاجةً إلى ثورة وعي جديدة تستنهض الهمم وتعيد الحياة إلى طبيعتها، وتسهم في توفير السعادة، والمحافظة على البقية الباقية من أشكال التعايش والسّلْمِ الاجتماعي.

ويجب أن نعلم أنَّه من المهم أن تلتقي جميع الآداب والمشاريع التوعوية عند فكرة: الحرية الإنسانية، وتجاوُز النطاقات الأُحادية والإثينية.

وأخيرًا نقول: إنِّ على صانع الوعي أن يكون هو نفسه أوَّلًا على وعيٍ بأهدافه، وأن يتمتع بالنُّضج التام والمرونة لقَبُول الآخر، وإلَّا سيكون كمن قال الله فيهم: "أتأمرون الناس بالبِرِّ وتنسون أنفسكم"، (سورة البقرة: آية 44)، وكمن قال الشاعر فيه:

لا تنه عن خُلقٍ وتأتي مثله

عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ.

فليتزود الأديب أولًا بنفسيَّةٍ رحبة ويتحرر من قناعاته المسبقة لدى الحوار وإن آمن بها في قرارة نفسه.. المهمّ أن يترك مساحةً للتعاطي مع الآخرين، وإلَّا فلن يستطيع تغيير نفسه ناهيك عن تغيير محيطه ومجتمعه.

إنَّ أهم ما في مشاريع النهضة التوعوية والمعرفية أنها لا تتناقض ولا تتعارض بحالٍ من الأحوال مع الحرية الإنسانية بنطاقاتها العمومية والشمولية، وصولًا إلى تحقيق الاستخلاف الحضاري في الأرض.

فالوصول إلى عمارة قلب الإنسان وبناء وعيه، هو أهدى الطرق للوصول إلى الله.

فالله خير، الله عدل، الله محبة، الله سلام.

وعبادة الله لا تكون مع الجهل، وإنما هي مرهونة - في الأساس- بالمعرفة ومحتويات المعرفة من آداب وعلوم.

bottom of page