القاهرة ـ خاص
تطرح بارلو ثلاثة سيناريوهات كارثيّة، أولها أنّ البشريّة تلوث وتستنفد مواردها المائيّة بمعدل خطير، قد يكون سببًا في تغير كبير في المناخ. وثانيها: يعيش المزيد والمزيد من البشر دون فرصة استخدام المياه النظيفة؛ ولذلك يفوق عدد الأطفال الذين يموتون نتيجة تلوث الماء، أعداد وفيات الصغار بسبب الحروب والملاريا والإيدز والحوادث المروريّة. فبينما يستمتع الأثرياء بشراء المياه المعبأة، لا يحصل ملايين الفقراء على ماء ملوث من الآبار. وثالثها اتفاق شركات عالميّة على تعبئة الماء وبيعه في قوارير بلاستيكية بأسعار باهظة، وتكرير الماء وإعادة بيعه، وتحكم السوق في السياسات المائيّة.
يحدث كثيرًا ألا يستوعب الإنسان النعمة القريبة من يده؛ يرى الأنهار تجري من حوله، ويتنفس هواء نقيًّا على ضفافها، فيتصوّرها نعمة دائمة لا يعكر صفوها شيء. فكيف له أن يعرف أن هناك من يتاجر في "الماء والهواء" ومن يفسدهما عليه بتلويث البيئة؟ ومن سيخبره أنّ "العالم يستنفد الماء العذب" وأنّه سوف يصبح "نفط القرن الحادي والعشرين"؟
حول أزمة الماء ومستقبله خصّصت الكاتبة الكنديّة مود بارلو نضالها الفكريّ، ومن أبرز ما نشرته كتاب "الميثاق الأزرق" (الدار العربيّة للعلوم ناشرون) بترجمة بسام العقباني. وتشير بارلو ابتداء إلى الصراع بين شركات وحكومات وجهات عالميّة ترى في الماء "سلعة تباع وتشترى"، مقابل الحركة العالميّة الكبيرة للعدالة في توزيعه، التي ترى الماء حقًا من حقوق الإنسان الأساسيّة؛ لأنّ الإنسان يموت ببساطة ما لم يحصل على حصّة نظيفة من الماء للشرب والنظافة والاستحمام.
وبهذه القناعة سافرت بارلو إلى مختلف القارات، وزارت أكثر الأماكن النائية فقرًا وشحًّا في المياه، وجابهت مؤسّسات دوليّة، ونشرت أفكارها لتعزيز حركة المناضلين من أجل الماء.
سيناريوهات الكارثة
تطرح بارلو ثلاثة سيناريوهات كارثيّة، أولها أن البشريّة تلوّث وتستنفد مواردها المائيّة بمعدل خطير، قد يكون سببًا في تغيّر كبير في المناخ. وثانيها: يعيش المزيد والمزيد من البشر دون فرصة استخدام المياه النظيفة؛ ولذلك يفوق عدد الأطفال الذين يموتون نتيجة تلوث الماء، أعداد وفيات الصغار بسبب الحروب والملاريا والإيدز والحوادث المروريّة. فبينما يستمتع الأثرياء بشراء المياه المعبأة، لا يحصل ملايين الفقراء على ماء ملوث من الآبار. وثالثها اتفاق شركات عالميّة على تعبئة الماء وبيعه في قوارير بلاستيكيّة بأسعار باهظة، وتكرير الماء وإعادة بيعه، وتحكّم السوق في السياسات المائيّة.
إنّ الأزمة تتفاقم نتيجة التزايد السكانيّ، حيث تضاعف سكان العالم ثلاث مرت في القرن الحادي والعشرين، لذلك بحلول عام 2050م سيتضاعف احتياج الماء سبع مرات، وكذلك التلوث، حيث يعيش خُمس السكان دون شبكات صرف صحيّ، ويتعرضون للأمراض المنقولة بواسطة الماء. ففي أنجولا ـ على سبيل المثال ـ مات مئات الآلاف بسبب الكوليرا، إضافة إلى ظواهر تغيّر المناخ والتصحر وانتشار الملوحة وقلّة سقوط الأمطار. كما تراجع منسوب المياه في البحيرة العظمى ـ أكبر بحيرة للماء العذب في العالم ـ إلى أدنى مستوى له خلال ثمانين عامًا. وتطال الأخطار والتلوث والتدهور والاستنفاد معظم مصادر المياه المسطّحة والجوفيّة، إضافة إلى إزالة الغابات والمروج بسبب التمدّن الهائل، وإقامات السدود الضخمة ببلايين الدولارات لتوليد الكهرباء، رغم تأثيرها الضار، لأنّها تحبس المواد العضويّة والنباتات المتعفنة وتعطل بيئة الحياة المائيّة.
لغة الأرقام
بلغة الأرقام يحتاج الإنسان إلى خمسين لتر يوميًّا لحاجات الشرب والطبخ والصرف الصحفي، بينما متوسط استخدام الشخص في أمريكا ستمائة لتر، وفي إفريقيا ستة لترات! أي أنّ فرق الاستهلاك بين الشمال والجنوب يصل إلى مئة ضعف. وفي العام 2006م أصبح سكان المدن أكثر من سكان الريف، وهو ما أنشأ أحزمة فقر هائلة لا تتمتع بخدمات ماء جيدة، فمثلًا ذكر تقرير أن مرحاضًا في بومباي يخدم 5400 شخص! ومن المفارقات أن الصين تمتلك ماء أقل مما تملكه كندا، رغم أنّ عدد سكانها أربعين ضعف الكنديين.
وتلجأ بعض الدول لمعالجة شحّ الماء، إلى استيراد المحاصيل والمنتجات التي تستهلك الماء، فمثلًا تستهلك كينيا مخزونها المائي من بحيرة نيفاشا، لإنتاج الورود وتصديرها إلى أوروبا، ويتوقع بعض العلماء أن تصبح البحيرة بركة موحلة في غضون سنوات قليلة. وللأسف يشجع البنك الدوليّ والمؤسسات العالميّة تلك الصادرات، التي تعتبر ترحيلًا لماء الفقراء إلى الأثرياء عبر منتجات زراعيّة.
سيطرة الشركات
يناقش الفصل الثاني من الكتاب سيطرة الشركات لنقل الماء من مفهوم أنّه "مورد عام" إلى "سلعة" عبر تعبئته في قوارير، وتوظيف النانوتكنولوجي والأنابيب والسدود ومصانع التحلية ونظم التنقية، وقيم الخصخصة، بما يخدم هذه الشركات.
في هذا السياق تنتقد الكاتبة دور البنك الدولي الذي دفع دول الجنوب للتخلي عن خططها الوطنيّة للتنمية، وتبني نموذج "إجماع واشنطن الاقتصاديّ"، فسحبت هذه الدول قروضًا بفوائد مخفضة ثم عجزت عن السداد، وأجبرت على الخضوع لبرامج خصخصة الخدمات العامة، من: التعليم، والصحة، والنقل، والكهرباء، وخدمات الماء، والصرف الصحي. وقد اتبع البنك مع هذه الدول سياسة الجزرة (تخفيض المديونية وتقديم التمويل) والعصا (التهديد المبطن بسحب المساعدة). ومن ثم أخضع نُخب العالم الثالث لبرامج مكثفة حول الإدارة الخاصة للمياه. وروّجت الأمم المتحدة ـ منذ حقبة كوفي عنان ـ لانخراط القطاع الخاص في خدمات الماء بطرائق عديدة. ومنذ إنشاء منظمة التجارة العالميّة WTO عام 1995 تمّ تضمين الماء على أنّه "سلعة" يمنع وضع القيود على تصديره. ومن بعدها سعت الاتفاقيّة العامّة لتجارة الخدمات GATS إلى تحرير قطاعات الخدمات التي تتحكم بها الحكومات، ومنها عشرات الخدمات المتعلقة بالماء، مثل: بناء أنابيب الماء، وخدمات الري، وتقدير المياه الجوفيّة، ونظم التنقية ومعالجة المياه المستعملة.
كما تطرقت الكاتبة للعديد من الجهات الدوليّة والقمم والمنتديات العالميّة، الداعمة لمسار التسليع والخصخصة، وترى أنّ هذا التوجّه فشل خلال العقدين الماضيين، نتيجة ميراث الفساد، ومعدلات الارتفاع الخياليّة في أسعار الماء؛ لأنّ الهدف الأساسي للشركات هو "الربح" وليس تحقيق خدمة اجتماعيّة كحق استعمال الماء.
ومن أهم الشركات العاملة في هذا المجال شركة "سويز" التي يعمل لديها 160 ألف موظف نصفهم في قسم الماء، وتقدر إيراداتها بقيمة 60 بليون دولار تضعها في المرتبة 79 بين أكثر الشركات ثراء، وكذلك شركة "فيوليا" التي تقدر إيرادتها بنحو 34 بليون دولار، وتتحكم كلتا الشركتين بثلثي القطاع العالمي لخدمات الماء الخاصة.
إما أن تشرب أو تموت
ردًا على المعترضين على شرب مياه المجاري المكررة قال مسؤول استرالي بارز "إما أن تشرب أو تموت". بهذا الاستهلال يبدأ الفصل الثالث عن "صيادي الماء" الذين ينتقلون للبحث عنه هنا وهناك ويكرّرونه ويعالجونه باستخدام مواد كيماويّة. ويؤكد ماسونز بووك أن قطاع التحلية والماء الصناعي هو أكثر القطاعات ديناميكيّة في الصناعة العالميّة للمياه، خصوصًا أنّه استوعب العديد من الشركات الصغرى أيضًا، ولم يعد حكرًا على الشركات عابرة القارات، وبصفة عامة من أكبر الشركات العاملة في التنقية والتحلية وصناعات الماء ومراكز البحوث GE و ITTوداو كميكال وسيمنز وهاي فلاكس العاملة في تكرير المجاري. وتخصص دول كثيرة بلايين الدولارات، لهذه الاستثمارات، فالسعوديّة ـ على سبيل المثال ـ خططت لاستثمار نحو 80 بليون دولار لتحلية وتنقية المياه خلال عقدين، وتبقى منطقة الخليج السوق الأكبر للتحلية.
وبسبب التكلفة المرتفعة للتحلية التقليديّة جرى التوجه إلى التحلية النوويّة لمياه البحر، وتوظيف النانوتكنولوجي لتنظيف المياه الملوثة، وتكنولوجيا مصنعي مولدات الغلاف الجوي التي تمتص الماء من الهواء وعمليّات الاستمطار، ومصانع تعبئة المياه حيث ارتفع استهلاك العالم من الماء المعبأ، من بليون لتر في السبعينيّات إلى مئتي بليون لتر عام 2006، بزيادة سنويّة لا تقل عن 10% ومن أكثر البلدان استهلاكًا: أمريكا، والصين، وألمانيا، حيث اشتهرت عشرات العلامات التجاريّة مثل كولا، وأكوافينا، وداساني، ونستلة. ما دفع ريشتارد ولك ـ أستاذ علم الاجتماع في جامعة إنديانا ـ للاعتراض قائلًا: "إنّها صناعة تأخذ السائل المجاني الهاطل من السماء وتبيعه بأربعة أضعاف ما ندفعه مقابل الغاز". وهكذا أصبح الماء بالنسبة إلى الشركات هو "الذهب الأزرق"!
وتقدر الكاتبة سوق المياه بنحو 400 بليون دولار، وترى أنّ استيلاء الشركات يعمق الأزمة بدلًا من أن يعالجها، ويزيد معدلات التلوث، ليحصل الأغنياء فقط على الماء النظيف. ومع ضعف سيطرة الحكومة ومراقبة القوانين يصبح النظام البيئيّ كلّه مهدَّدًا.
مستقبل أفضل
يقول دبليو اتش أودين: الآلاف عاشوا بدون حبّ، لكن لا أحد عاش من دون ماء" بهذا الاستهلال تلقي بارلو الضوء على قضية النضال من أجل الماء، ضد سيطرة وفساد الشركات في الفصل الرابع من كتابها. ولا يخفى بالطبع أنّها سطرت فصوله انطلاقًا من موقف سياسيّ محدّد، ضدّ تسليع الماء، واعتباره حقًّا أساسيًّا لكلّ إنسان، وتراثًا مشتركًا للبشر والطبيعة. وتعود جذور هذا النضال إلى الحركة العالميّة للعدالة في توزيع المياه.
تضرب الكاتبة مثلًا بأمريكا اللاتينيّة التي تتمتع بوفرة في المياه وأعلى معدل حصص لسكانها، رغم أنّ واقع الحال ليس كذلك؛ بسبب المياه السطحيّة الملوثة، والخصخصة، والتفاوت الطبقي. وقد تطرقت إلى تعامل بعض دول القارة مع هذه القضية، ومنها بوليفيا والأرجنتين والمكسيك، وكذلك في دول آسيا ـ الباسيفيك مثل الهند وأندونيسيا، وفي قارة أفريقيا، وصولًا إلى أمريكا وكندا، وأوروبا. وما رافق السياسات المائيّة من احتجاجات تحركها مؤسسات مدنيّة وشعبيّة بلورت نشاطها في منتديات عالميّة للناشطين والأكاديميّين، سعيًا إلى طرح بدائل أكثر عدالة.
ويصل بنا الكتاب إلى سؤال المستقبل، وكيف يكون أفضل وأكثر عدالة للبشر في الشمال والجنوب؟ وهو ما لن يتحقق إلا بالاشتغال على ثلاث أزمات رئيسة هي: تضاؤل المياه العذبة، سيطرة الشركات، والاستعمال غير العادل.
فبسبب هذه الأزمات أصبح الماء محركًا للصراعات بين الدول، وحتى التجمعات الفقيرة تضطر للجوء إلى أعمال غير قانونيّة لسدّ احتياجاتها، مثل قطع وتحويل المياه. وما يضاعف احتمالات العداء أنّ عشرات الأنهار وأحواض المياه الجوفيّة هي بالمشاركة بين العديد من الدول. فمثلًا تعتمد فلسطين والأردن وإسرائيل على نهر الأردن، والأخيرة هي من تتحكم فيه، كما وضعت تركيا سدودًا قللت من نصيب سوريا من نهر الفرات، والشيء نفسه مع العراق.
هذه الأوضاع المنذرة بالخطر دفعت ليستر براون من معهد سياسة الأرض في واشنطن إلى رسم صورة قاتمة للمستقبل، مع هجرة اللاجئين بحثًا عن الماء. نتيجة لهذه المخاوف، والصراعات القائمة أو المحتملة، أصبح الماء "مسألة أمنيّة عالميّة" وهو ما حرصت عليه دول مثل أمريكا والصين.
وقد تبنت الكاتبة ما يسمى "الاتفاقية الزرقاء" التي ترسي مجموعة من المبادئ، أهمها: حماية البشر من سوء استغلال الشركات والحكومات، حماية مزوّدات ومنابع المياه العالميّة، عدالة التوزيع بين الشمال والجنوب، وديمقراطيّة الماء بديلًا لسيطرة الشركات، ليتحول عملها من التنافس الربحيّ إلى تعزيز المنفعة العامة.
لكن للأسف، الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان لم يتضمن "الماء"، لذلك يتوقف تفعيل تلك المبادئ المشار إليها على إجابة هذا السؤال البسيط: هل الماء منفعة عامة كالهواء أم سلعة مثل الكولا؟
Comments