top of page

نجيب محفوظ... حاملًا مدينته فوق ظهره

تاريخ التحديث: ١ نوفمبر ٢٠٢٣


نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

د. شريف صالح
د. شريف صالح

يتحدث (غاستون باشلار) عن جمالية المكان "مُتناهي الصغر" بأنه كلما صغرٍتَ العالم بمهارة أكبر، امتلكته بشكل أكثر كفاءة.

وعبر منجز سردي يزيد عن ستين كتابًا، فالملمح الأساسي لدى نجيب محفوظ هو تشييد عالم متناهي الصغر، وتقديمه بوصفه استعارة جمالية للكون والوجود البشري كله.

فنادرًا ما تجاوزت نصوصه حدود حيين أساسيين هما "الجمالية" و"العباسية" حيث عاش في الأول طفولته، فهو رمز لكل ما هو عتيق وشعبي، وفي الثاني استمتع بمراهقته، وكان رمز الحداثة والعصرية.

كلا الحيين يكفي لتمرير كل حمولات الأمكنة الأخرى المغيبة. حتى حي العجوزة الذي عاش فيه النصف الثاني من حياته قلما يظهر في نصوصه.


إنه لا يكتب عن القاهرة بكل أحيائها ـ حتى وإن استحضرها ضمنًا ـ وإنما ينتقي من المدينة الشاسعة المعقدة بقعة جغرافية محدودة، لكنها دالة عليها جدًا.

كأنه يُدرك عجزه المادي والجسدي عن رؤية شساعة العالم، لكنه ـ في المقابل ـ يستطيع أن يستحضره بكل أشواقه وشهواته وشطحاته وآلامه ونضاله، عبر مرآة بالغة الصغر لا تزيد عن بضع كيلو مترات. فروح العالم الحية الخالدة، قابلة لأن تتجلى بكل حيويتها، في أي شبرٍ منه.

اكتفى محفوظ بتأطير جغرافية عالمه الأدبي، في حدود ما أدركه بحواسه الخمس. ضيّق المساحة ثم مد الزمن إلى ما لا نهاية. وكتب عما يعرفه معرفة اليقين.

هذا العالم هو ما حفز مخيلته وشيدها، وألهمها وألهبها، فأعاد تجسيده سرديًا. ومنحه المتناهي سيطرة واضحة، فهو يعلم شوارع عالمه بدقة، ومقاهيه، وذاكرته الجمعية، ووجوه موظفيه وفتُوَّاته ومَوامِسه ودراويشه. وهو ما يشير إليه (باشلار) بأنه امتلاك المكان على نحو أكثر كفاءة.

لقد اختلف محفوظ عمن ولدوا وعاشوا في هذين الحيين، بأنه يراقب كل تفصيلة تدور فيهما، ويدّون كل حكاية، ويستحضر تاريخًا غامضًا من الغياب. يتعامل مع الجغرافيا بكفاءة مضاعفة، يثبّت المكان ـ والحياة ـ ضد التلاشي والنسيان.



نجيب محفوظ والرئيس المصري حسني مبارك
نجيب محفوظ والرئيس المصري حسني مبارك


ورغم أنه كتب نصوصًا وجودية كبرى مثل "أولاد حارتنا" و"ملحمة الحرافيش ـ أجمل رواياته ـ ساردًا التاريخ البشري كله، في امتداده اللانهائي، والتقاء خبر السماء بمعارك الأرض، لكن هذا الامتداد الزمني اللانهائي، تم تأطيره مكانيًا من وحي الحيين المُفضلين لديه.

إن جملة محفوظ الوصفية لأي فضاء، لا تتمتع بالكثافة فحسب، وإنما بالحركة الدرامية، والومضة الشعرية، وإن لم يلجأ إلى دولاب الاستعارات الجاهزة أو "الميتة" بتعبير (ريكور).

ولا يخلو مجمل عناوينه من إشارة زمنية أو مكانية، وهما شرطان لتأسيس أي فضاء سردي، مثل: السكرية، بين القصرين، قصر الشوق، السمان والخريف، خان الخليلي، ملحمة الحرافيش، والكرنك.


تخييل الواقع

يُصنف محفوظ عمومًا بأنه أديب الواقعية، رغم أن هذا التصنيف لا يصمد طويلًا أمام رواياته التاريخية الفرعونية، ولا النفسية، ولا الوجودية الرمزية، ولا حتى سيرة أحلامه المقطرة بروح الشعر.

كما لا يصمد التصنيف مع نظرته المكثفة إلى المكان، فهو لا يقدمه في نسبه التقليدية، وقلما يسهب في وصفه، وإنما ينتقي منه ما يتلاءم مع توترات السرد ودراميته.

إن الفضاء لديه مختزل جدًا، وانتقائي، ومرتهن إلى ذاكرة الطفولة والصبا. يعبر على اختلاف تجلياته، عن نزوع فلسفي ووجودي، أكثر منه واقعيًا، حتى في أعمال متفق على واقعيتها مثل "خان الخليلي" حيث اختار شارعًا ضمن منطقة الحسين، والمشهور حاليًا بوجود محال الذهب والفضة والأنتيكات، ثم أعاد تجسيده في لحظة توتر درامي متعلقة بالحرب العالمية الثانية.

وكما أشرنا، فإنه لا يكتب عن القاهرة بكل امتدادها الهائل، وإنما عن مربع صغير مُنتقى منها، فحتى داخل هذا المربع يعيد تصغيره إلى "زقاق المدق" فهو ليس أكثر من شارع ضيق ومحدود لا يوجد به أكثر من بيتين أو ثلاثة، لكنه أعاد توسيعه سرديًا:

"تنطق شواهد كثيرة بأن زقاق المدق كان من تحف العهود العابرة، وأنه تألق يومًا في تاريخ القاهرة المُعِزِّية، كالكوكب الدري".

فمن يذهب ناحية "زقاق المدق" الهامشي والصغير، لن يجده بذلك الألق والسحر.

يتحدث (باشلار) عن تلك الحيلة السردية، كأن يُحبس البطل في مكان بالغ الضيق لكنه يلج منه إلى "عالم خيالي مدهش"، فيرينا المنظور معكوسًا: المتناهي بالغ الضيق يدل على اللامتناهي. إنها عظمة التخييل عند "الحالمين الأصلاء" وفق تسمية (باشلار).

أي أنه لا يُحاكي الواقع، ولا يعيد إنتاج جغرافيته كما هي، وإنما يتلاعب بها. بتعبير (شوبنهاور): "العالم هو خيالي أنا".

فليس قصد محفوظ اجترار الواقع، وإنما يوظف التخييل لتشييد فضاء سردي متخيل ومكثف، مُستلهم من ذلك الواقع ودال عليه.






على تخوم ذلك "الفضاء السردي" المحكم، قد تتراءى تخوم فضاءات أخرى، تطل من بعيد، ولو في جملة عابرة. فهو لا يكتب عن الريف الزراعي، ولا عن البحر والصيادين، ولا البدو والصحراء، وإنما قد تمر تلك البيئات في ومضات سردية.

فمثلًا استدعى الإسكندرية أحيانًا كما في "السمان والخريف"، وهي المدينة التي اعتاد قضاء الصيف فيها، والتقى فيها بزوجته.

وقد يشير عرضًا إلى صحراء العباسية، أو الخلاء، كفضاء انتقالي عابر، فمثلًا غادر عاشور الناجي حارته هربًا من الوباء، محتميًا بالصحراء كفضاء للنقاء القديم. وقد يكون الخلاء رمزًا للهروب من كل ترتيبات السلطة والمجتمع، أو مأوى الأموات "المقابر". لذلك فهو غامض ومعتم ومنذر بالخطر، وتقع فيه جرائم عصية على التفسير، وهناك قد يختفي الأبطال فلا يُعثر لهم على أثر.

كأن "الخلاء" جهنم سرية، فضاء معتم يجري فيه القصاص، وتتحقق العدالة التي تفوق منطق البشروتوقعاتهم، فمثلًا كافح سعيد مهران كفاحًا مريرًا ضد "الكلاب". لقد رأى في نفسه ـ رغم أنه مجرم مُدان ـ نبلًا يفوق ما يتمتع به من هم في مواقع السلطة والنفوذ. وقف ضد مجتمع مزيف ومتواطئ، أشهر سلاحه في وجه الجميع ثم انتهى مُطاردًا في الصحراء/ الخلاء:

"وإذا بالضوء الصارخ ينطفئ بغتة فيسود الظلام، وإذا بالرصاص يسكت فيسود الصمت. وكف عن إطلاق النار بلا إرادة، وتغلغل الصمت في الدُّنيا جميعًا.. وحلت بالعالم حال من الغرابة المذهلة".


المقهى صُرة العالم

لو كانت المحروسة القاهرة قد تكثفت في حييّ العباسية والجمالية، ثم تكثف الحيان ـ مرة أخرى ـ في شارع أو زقاق، فثمة مستوى ثالث يُكثف الوجود كله في "مقهى".

يربط "المقهى" كفضاء مركزي بين الكاتب ونصه، فمحفوظ نفسه اشتهر بارتياد المقاهي القاهرية، وارتبطت تجربته ابتداء بمقهى "الفيشاوي" في "الحسين"، القريب من البيت الذي ولد فيه، واعتاد الجلوس عليه، وتبلورت مسودات نصوصه الأولى هناك، وهو مقهى عريق أنشئ أواخر القرن التاسع عشر، واكتسب شهرة سياحية كبيرة ـ حتى اليوم ـ بكونه مقهى أديب نوبل.

وهناك مقهى "ريش" الذي يزيد عمره عن مئة عام، ويقع على بعد خطوات قليلة من ميدان طلعت حرب وسط القاهرة، وكان مفضلًا لدى الكثير من الكتاب، وليس خاصًا بمحفوظ مثل "الفيشاوي"، وكثيرًا ما التقى رفاقه ومحبيه عصر كل جمعة في "ريش".

أما المقهى الثالث فيحمل اسم "علي بابا" ويطل على ميدان التحرير غير بعيد عن "ريش"، وقد اعتاد أن يخرج من بيته على كورنيش العجوزة، ويترجل بمحاذاة النيل عابرًا "كوبري قصر النيل" ليصل إلى مقهى "علي بابا" فيتشري الصحف ويصعد إلى الطابق العلوي لقراءتها وشرب قهوته، وثمة صورة شهيرة له في ذلك المقهى، عقب فوزه بجائزة نوبل. لكن للأسف أصبح ذلك المقهى مهجورًا الآن.

هناك بعض المقاهي أقل شهرة ارتادها وخلدها مثل "قشتمر" في باب الشعرية، وقد اتخذه عنوانًا لإحدى رواياته، ومقهى وحلواني "ديليس" في الإسكندرية، الذي أنشأه الخواجة اليوناني (موستاكاس) عام 1907.

أقام محفوظ الإنسان علاقة منتظمة مع مقاهيه المفضلة، يرتادها في أوقات معلومة، ولو مرة كل أسبوع. ومن خلالها كان يراقب البشر والزوار العابرين والنماذج البشرية الغريبة، والحكايات المبتورة، والعمال البسطاء، ودنيا الموظفين.

إن المقهى أصغر فضاء يمكن أن تُختزل فيه المدينة بكل بشرها وحكاياتها، وتحولاتها الاجتماعية والسياسية والمعمارية، وهو فضاء عابر ومفتوح، ليس له قداسة العمارة الدينية، ولا يتطلب تصريحًا وإذنًا كفضاءات السلطة.

إنه برزخي بامتياز، يتقاطع فيه المنتمون إلى شتى الفضاءات، فهو ملك الجميع وليس ملكًا لأحد في الوقت نفسه. كما يعبر بوضوح عن التنوع العرقي والجغرافي لرواده، وتنوع الأفكار بطبيعة الحال.

ولو تأملنا رحلة محفوظ اليومية من بيته في العجوزة إلى "علي بابا"، نستنتج أمرين:

أولهما: أنه كان مشّاء عظيمًا، لا يُعرف عنه أنه اقتنى أو قاد سيارة، وثمة صور ولقطات كثيرة له أثناء السير ومصافحة البسطاء في طريقه بمحاذاة النيل، مع ابتسامته العريضة والصافية وضحكته الرنانة.

وثانيهما: أنَّ جلوسه في المقاهي كان بمثابة استراحة مؤقتة قبل العودة، وإشباع فضوله في الاحتكاك بتجارب الآخرين.

من خلال سيره اليومي، وجلوسه، يستغرقه تأمل داخلي، كأنه يسير حاملًا مدينته بكل تاريخها وأحلامها وانكساراتها فوق ظهره، وهكذا كانت نصوصه تُبنى وتتشكل في داخله نتيجة تلك الحركة في شوارعها والاستراحة على مقاهيها. وقد عبر عن ذلك بقوله:

"حبي وارتباطي بالقاهرة القديمة لا مثيل له. عندما أمرُّ في المنطقة تنثال عليَّ الخيالات، وأغلب رواياتي كانت تدور في عقلي كخواطر حيّة أثناء جلوسي في هذه المنطقة. يخيّل لي أنه لا بد من الارتباط بمكان معين، أو شيء معين يكون نقطة انطلاق للمشاعر والأحاسيس. والجمّالية بالنسبة إليّ هي تلك المنطقة".

هذا اعتراف واضح بأن المكان هو ما يغريه بالكتابة، وكأن تحولات العمارة التي راقبها ـ عبر عمر مديد ـ هي التي دفعته لاختلاق القصص عنها، وتثبيتها في الذاكرة.

وتأرجح الكون السردي لديه ما بين تضييق حيزه ليصبح القاهرة "الفاطمية"، أو اختزاله بقسوة في "مقهى" عابر، بوصفة صُرة العالم التي تنثال منها كل الحكايات/ الولادات/ اختمار الأفكار/ الكتابة.

مع الوضع في الحسبان أن صدارة المقهى في حياته ـ وسرده ـ لا تقتصر على شكل معين له، فقد تتلون في هيئة عتيقة تقدم "البوظة"، وهو مشروب متخمر من الشعير اشتهر في مصر من زمن المماليك منذ القرن الخامس عشر، ويظهر ذلك في ملحمة الحرافيش في مقهى درويش، كفضاء للصراع الأزلي بين الخير والشر، أو يصبح المقهى مجازًا رمزيًا غامضًا، أو سينما مثل إشارته إلى "سينما الكلوب المصري" التي كان يذهب إليها "كمال" بطل "الثلاثية"، أو "العوامة". صحيح أنها تسمية رائجة لليخت البحري الخاص بالأثرياء، لكنه قدمها بروح المقهى في "ثرثرة على النيل"، حيث يلتقي بالأصدقاء المثقفين للعربدة مع الحسناوات وتدخين "الحشيش"، كما يحدث في بعض المقاهي الشعبية و"الغرز" و"بيوت المتعة".

فالمقهى ليس مجرد مبنى معين، بل وظيفة عابرة وملتقى شخصيات عابرة، لتبادل الآراء والمتع المعلنة والمختلسة. ولا يبعد دورها التخييلي كثيرًا عن دورها الحقيقي في حياة محفوظ نفسه، حيث اعتاد أن يلتقي أصحابه المقربين أسبوعيًا في إحدى "العوامات". كما تردد في شبابه على "بارات" القاهرة في أربعينيات القرن الماضي.

لقد رأى محفوظ القاهرة بعين العاشق العابر، متتبعًا تحولاتها السريعة المتلاحقة من ثورة 19 والحرب العالمية الثانية وثورة يوليو والنكسة وانفتاح السادات وصعود اليمين الديني. وقد راقب كل تلك التحولات، من فضاء صغير جدًا وعابر وبرزخي هو: المقهى، البار، العوّامة، وبيوت المتعة. مع وضعه في مقابل روحانية الفضاءات المقدسة مثل مقام سيدنا الحسين، أو "التكية" الغامضة في "ملحمة الحرافيش".


خط الألف عام

وُلِدَ محفوظ بصدفة قدرية على مقربة من شارع المعز، أي على الخط الفاصل لقاهرة الألف عام، على يمينه القاهرة الإسلامية والمسيحية بعمارتها العتيقة كقلعة صلاح الدين ـ مقر الحُكم القديم ـ ومقامات السيدة والحسين والكنائس العتيقة، وعلى يساره القاهرة الخديوية والأوروبية التي تمددت شمالًا مع جريان النيل، وقد انتقل للعيش في حيزها على كورنيش العجوزة. وهكذا افتتن في طفولته بالمشربيات والقباب والمآذن والتكايا، واستمتع في شبابه بالكازينوهات والبارات والعمائر على الطراز الإيطالي.

من ثم تسربت ملامح عمارته السردية، لتعبر بجلاء عن ذلك الامتداد السحيق طيلة ألف عام منذ الفاطميين حتى عصر مبارك.

كما لا يمكن فهم الفضاء المحفوظي وتحليله في اختزاله التخييلي فحسب، ولا امتداد ذاكرته لألف عام، وإنما أيضًا في تضاعفه عبر ثلاثة مسارات:

ـ المكان الواقعي الذي عاش فيه الكاتب وشيد فيه ذاكرته وتاريخه الشخصي، ومآلات تلك الأمكنة.

ـ المكان المتخيل كما سرده ـ لغويًا ـ عبر نصوصه.

ـ المكان المتجسد على الشاشة في الأفلام والمسلسلات، المأخوذ عن نصوصه، وإمكانية المقارنات هنا بين المرئي على الشاشة، والمكتوب، والقائم في الواقع.





يوتوبيا.. الحل السعيد

إن انشغال محفوظ بالمكان أعطى أدبه قيمة بصرية رفيعة، لكنها تتجاوز التسجيل والتوصيف، مستفيدة من حرية التخييل، وشعرية اللغة الواصفة، وفي الوقت نفسه طرح أدبه المكاني نوعين من الأسئلة:

أولهما سؤال اجتماعي وسياسي مباشر، يتعلق بمصير المدينة وشعبها، كيف يعالج الناس الماضي؟ هل بالحنين إليه أم بالتعلم من أخطائه؟ أي شروط يتطلبها المستقبل القريب؟ ووفق أية نظرية يمكن إصلاح الأحوال؟

ثانيهما سؤال وجودي فلسفي، يثير إشكالية الوجود ذاته، وعلاقة الأرض بالسماء، والمصير الحزين للإنسان، وهل الخلاص محاولة فردية، أم تجربة إنسانية جماعية؟ هل يمكن الاستغناء بالتصوف عن الكد وامتلاك الثروة؟ هل العلم بالضرورة ضد الدين أم مكمل له؟

إن السؤال الأول ذو طابع إبستمولوجي له علاقة بما ينفع البشر ويجنبهم الضرر والأذى، أما السؤال الآخر فأنطولوجي له علاقة بقدر البشر أنفسهم: السعادة والشقاء، والموت والخلود.

من تلك الزاوية يبدو محفوظ كاتبًا تراجيديًا أصيلًا، لا يؤمن كثيرًا بالخلاص الفردي، ولا الحل الأناني الذي يؤطر السعادة في مصلحة وشهوة خاصة، لكنه شديد الإيمان بقدرة البشرية كلها على التطور والتعلم من تجاربها، وإدراك خلاصها بتوليفة معينة من الإيمان، والعلم، والإرادة، والعدالة، والخيرية.

عبر السؤالين المؤسِّسين لمجمل إبداعه، لا يبدو محفوظ رائيًا مراقبًا لفصول المدينة فقط، وإنما هو حالم أصيل، وفيلسوف جدلي، يطرح الاحتمالات كلها ويعلق عليها، أملًا في مدينة أفضل سوف تولد.

إنه أدب يتوق إلى "اليوتوبيا" ليس كوهم قابل للتحقق، وإنما كصيرورة، أو محاولة متكررة من الخطأ والنسيان.

بمعنى آخر يدرك محفوظ الإنسان والمدينة، كحالة ميئوس منها، لكنه لا يسلب البشرية نبل المحاولة، والتمسك بالأمل.

وهكذا أنهى ملحمته الفذة "الحرافيش": "فقال له قلبه: لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة".

bottom of page