لم تكن جاذبية "خليل حاوي" الشعرية ولا سيرة حياته الشخصية الملهمة، ولا انبهاري الطفولي بعمق إيمانه ثائرًا ومناضلا، ولا ذهولي أمام انتحاره المسرحي ببندقية صيد على طريقة الساموراي، لم تكن هذه الأسباب مجتمعة وحدها ما دفعني للتنقيب والبحث في حياة حاوي شاعرًا وإنسانًا، بل لأنه في رسالة احتجاجه الأخير وفي الرصاصة التي أطلقها على رأسه، وعلى عهر هذا العالم، عشية الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982, ثقب بابًا آخر من أبواب التابوهات التي ظلت طويلا عصيّةً على الفهم متمنّعة عن السفور.
ففي مجتمعات تغرق حرفيًا حتى بصيرتها بالإيمان الميتافيزيقي، وتسلم أمرها وسيرورة فكرها وصيرورة نتاجها الحضاري للفكر الديني الماورائي، به تثيب وتعاقب وتأتمر وتحاكم عرفًا وأخلاقًا، في هكذا مجتمعات تصبح ظاهرة الانتحار كغيرها من الظواهر المسكوت عنها تسري في الظل بوشوشة هامسة وتُسلَّم كأي رغبة مكبوتة بسريّة تامة دون أن يحاسب أحد عن ثمنها أو يتحدث على أسبابها وتداعياتها.
وككل الظواهر المستعصية على الفهم يضعنا طرق هذا الموضوع أمام جواز الشيء ونقيضه:
فهل الانتحار قيدٌ أم حريّة؟ شجاعة أم جبن؟ هل هو موقف وجوديٌّ واختيار فلسفي واع أم نتيجة لتراكم نزعات تدميرية لا واعية؟ هل يختلف انتحار الأدباء عن انتحار الناس العاديين؟ هل يمكننا في لحظة التخلي/التجلي هذه محاكمة المنتحر أخلاقيًّا وفق معايير الجنة والنار ومعايير المسؤولية الأخلاقية والأمانة الربانية؟
لم يكن خليل حاوي المبدع المنتحر الأول ولن يكون الأخير، فقبله (إرنست همنغواي) و(فرجينيا وولف) و(فلاديمير ماياكوفسكي) و(يوكوما ماشيما) و(تيسير السبول) و(سيلڤيا بلاث) …
وليس لأن حاوي هو أكثر من أعرف من المنتحرين، بل لأن في سيرته الشعرية ونضالاته العميقة الإيمان إرهاصات ودلائل تسمح بالإجابة عن معظم الأسئلة أعلاه.
فلكل انتحار بعدان، بعد مبدئي فلسفي يرتبط عادة بموقف وجودي وبعد آخر ذاتي فردي يأتي نتيجة لتراكم هزائم نفسية وواقعية معقدة، ولا يمكن بطبيعة الحال أن نركن إلى تنظيرات "نيتشه" على سبيل المثال الذي رأى في الانتحار اختيارًا حرًّا وشجاعًا وانتصارًا لإرداة الفرد ضد الجبرية الحتمية التي تحيط بالإنسان وتسيره.
وليس لأن الانتحار بحسب التحليل النفسي هو " المحصلة النهائية لعمليات لا شعورية بالغة العمق والثراء والتعقيد" وحسب، بل لأنني أرى في الأدب بالتحديد ومع مبدعيه تداخلا بين الذاتي والغيري، الخاص والعام، المبدئي والشخصاني، فبين الطرحين المتناقضين(شكلا) نتساءل، هل كان انتحار حاوي واعيًا أم لا واع؟
ككل الذين آمنوا يوما ما بالفروسية ورسالية الشعر ونضالية الكلمة، نحب نحن المبدعون أن يكون انتحار حاوي اختيارًا واعيا وحرّا، وأنه جاء نتيجة طبيعية لشاعر آمن طوال حياته وبقوة وصدق بالإنبعاث الحضاري والإنساني وعاش لأجلهما، شاعر اختار أن يكون شعره ميزان ومرصد حرارة الأمة صعودًا وهبوطًا واختار طوعًا أن يهب وجوده فرحا وراضيًا من أجل قيامة الإنسان والأمة، فاستشرف برؤاه غير نصر وأكثر من نكسة، يقول في قصيدة الجسر:
"أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
من كهوف الشرق إلى الشرق الجديد
أضلعي امتدت لهم جسرًا وطيد"
شاعر كهذا كان لا بد أن يصرخ في وجه الأمة التي بعثت "ليعازر" ميتًا عقيمًا، ثم ينهي حياته كفعل انتصار على الرضوخ والخنوع والهباء ويختار أن يرتفع في لحظة السقوط الكبير.
لكن هذه النظرة المثالية الشاعرية سرعان ما يتسلل إليها الشك ، فنظرة عميقة في حياة الأدباء المنتحرين واستراق بسيط إلى اعترافات بعضهم وبطريقة إحصائية سريعة تجد أن هؤلاء المبدعين، وبغض النظر عن استعدادهم النفسي وحساسيتهم المفرطة واندماجهم وتماهيهم مع الظواهر والنكبات الإنسانية وتوحدهم مع الوجود القلق وإيمانهم اليقيني والقيمي برؤاهم وقضاياهم، كان لهؤلاء إضافة إلى كل ما ذكرنا ظروف خاصة تتعلق غالبا بعزلتهم الاختيارية وغربتهم عن الآخرين وعن..الذات وإخفاقهم في تكوين علاقات عاطفية ناجحة وحنينهم الدائم لمراكز الضوء والاهتمام..ففي عرض سريع يرى د.محمد جابر الأنصاري في كتابه" انتحار المثقفين العرب" أن الأسباب التي دفعت حاوي للإنتحار ليست موضوعية ومبدئية بحتة، فإضافة إلى خيباته العظيمة بقضايا الانبعاث القومي والإنساني، تلك المهمة المقدسة التي تفرغ لها الشاعر، تطفو أسباب أخرى ومنها:
فقدان حاوي الإيمان واليقين بالمطلق الكوني، أي أنه وعلى الرغم من اطلاعه على الحضارتين العربية والغربية، لم يستطع أن يرسخ إيمانًا ميتافيزيقيا يعينه على الثبات والتوازن النفسيين، وفوق ذلك استبدل هذا الإيمان واستعاض عنه بالإيمان المطلق بالشعر وحده دون سواه، واللافت أنه لاحقا قد استعان على خيباته بالقيامة الحضارية بالشعر نفسه أيضا! والقارئ شعره يستشف ذلك بدءا من بواكير أعماله..
ثم إنه_أي حاوي_ أخفق في التجاسر مع المرأة الحبيبة، فغابت عن قصائده وعن حياته الشخصية كعنصر وجودي مكمّل وطبيعي للرجل الذي يسكنه. فهو قد صرح غير مرة أن" المرتبة التي تأتي بها الحبيبة إن وجدت لا بد أن تكون العاشرة بعد الشعر!"
وهذا سبب إضافي، فالشاعر الذي انسحب تدريجيا من الحياة الاجتماعية واختار العزلة نمط حياة لم يؤمن بثابت يقيني ولا استبدله بالحب وألبسه روح المرأة كما فعل شعراء آخرون وبعد خساراته والطعنات التي تلقاها تباعا في صميم إيماناته، صرح بأنه كان عليه أن يولي هذا الجانب اهتماما أكبر، فلربما كان ذلك خيطه المتين للتمسك بالحياة!
أمام شكه الميتافيزيقي وإخفاقه العاطفي وخيباته الفكرية والحضارية لم يتبق في حياة حاوي إلا الشعر، المطلق الذي راهن وارتهن لأجله، فهو على طريقة "هايدغر" رأى أن الوجود الأصيل يترنم بالكلمة وأن اللغة حارسته الأمينة
إذا، لم يؤمن حاوي سوى بالشعر وجودا حقيقا وأصيلا وكل "ما عداه قائم على هيمنة الميتافيزيقيا وأضداها البليدة"
فماذا إذا تخلى الشعر نفسه عن حاوي؟
يعترف خليل حاوي أن " جحيم الكوميديا" آخر دواوينه كان إيذانًا صريحًا ببداية نضوب حيويته الشعرية فالمسافة شعريا بين دواوينه الأولى وهذا الأخير واضحة وموجعة! فقد أتت قصائده مجتزأة وقصيرة ومفتعلة على عكس روائعه في نهر الرماد وبيادر الجوع و...وهذا ما لم يعتده جمهور الشاعر الذي بدأ بالانفضاض عنه تدريجيا وقد أخذ حاوي بصراحته المعهودة على النقاد والأصحاب عدم تصريحهم بذلك.
في هذه اللحظة القاتلة، اللحظة التي تعطلت فيها رئته الشعرية، وانهارت قيمه ومثله أمام عينيه، صرخ حاوي في وجه الفراغ:
رباه كيف أستطيع احتمال كل هذا العار؟!!!
وأطلق النار باتجاه الموت الحقيقي..
فهل يمكننا بعد كل ذلك أن نقول أن انتحاره جاء اختيارًا حرّا واعيا وتتويجا لفلسفة آمن بها؟ أم هو مزيج من الخيبات التي عصفت به هو المعلق بين حبلي أمل وشعر؟!
حاوي كغيره من المبدعين يتوق للضوء والتقدير والإحتفاء والشهرة ومثلهم آمن بقضاياه وتوحد معها واختفاء كل ما آمن به يعد رحلة شائكة إلى الجحيم.."فثمة علاقة كما يقول هندرسون بين الكفاءة الشخصية والتهديد والأمل وبين السلوك التدميري للذات"
خليل حاوي شاعر رؤيوي عظيم ومفكر كبير قاتل طويلا لأجل " أهله" إلى أن تخلى عنه أهله!
لذلك تراه حتى الآن يهزأ من الموت ويوسع حضن الصدى برصاصة ناضجة.. ويطلق النار على رأس العدم!
Comentários