(من أثرِ العِطْرِ) قصيدة للشاعرة السودانية دينا الشيخ
العنوان: (من أثرِ العطر)
جاء العنوان شبه جملة، تكونت من حرف جرٍّ ومجرور ومضاف إليه، وشبه الجملة لا يمكن السكوت عليها لعدم تمام الفائدة. وقد جاء العنوان من داخل النص نفسه، وشبه الجملة هذه متعلقة بالجملة الفعلية (فتقطفنا الأقدار من أثر العطر).
ولحرف الجر (مِن) معانٍ كثيرةٌ تفهم من السياق، وقد استخدمتها الشاعر لتعليل وقوع الفعل.
(1)
(قوافٍ بصحرائيْ وهودجُ راحلٍ
وعبقرُ في ليليْ يُقامرُ بالشِّعرِ
تحنُّ مواويلٌ إِذا جُنَّ عاشقٌ
تذوَّقَ في المعنى السُّلافةَ في الخمرِ)
هأنتذا تبينت الآن البحر الذي جاءت عليه القصيدة، فهو أفخم بحرٍ من بحور الشعر (رأي عبد الله الطيب في بحر الطويل).
وكل متابع لحركة الشعر الآن يُدرك أن الشعر العمودي قد عادت سلطته وسطوته التي أوشكت أن تضيع في فترة الستينات وما بعدها. فعندما نضجت قصيدة التفعيلة في هذه الحقبة، كادت تكون الممثل الأوحد للشعر، لولا بعض إشراقات الجواهري في العراق، والبردوني في اليمن، ونافسهم في الإجادة رموز التفعيلة ودهاقنتها.
وفي ظني أن ظهور قصيدة النثر في المشهد العربي منذ السبعينات، هو الذي أعاد للقصيدة العمودية رونقها وبهاءها الذي لا تخطئه العين، وأرى الآن أن قصيدة العمود قد بلغت من النضج ما لم تبلغه في أي حقبةٍ منذ ظهور قصيدة التفعيلة في مسرح الأحداث.
أعود إلى الشاعرة دينا الشيخ، وإلى قصيدتها. وقد جعلت من البيتين الأولين وحدة واحدة.
تبدأ القصيدة بكلمة مفتاحية (قوافٍ)، بجانب الوزن الذي كتبت عليه القصيدة. فروح التحدي ظاهرة بارزة، وهي تقودك من مطلع القصيدة إلى الوقوف أمام قصيدة موزونة مُقفاة، فهل نجحت في مرامها؟
أنا أقول إنها نجحت بامتياز، وهي تقوم برحلة خيالية عاطفية إلى منبِت القصيدة العربية، وذلك باصطحابك معها في هذه الرحلة الكاملة البداوة، وهي تضع أمامك مُفردات مفتاحية ذات دلالة موحية، فانظر معي إلى: (قوافٍ/ صحراء/ هودج/ عبقر/ مواويل/ عاشق/ السلافة)
هذه المفردات مجتمعة لا توجد إلا في مجتمع بدوي، وكأنها ترسم لك خارطة ثقافية للنص. ومن بين كل المفردات تأتي الإضافة إلى النفس في مفردة واحدة، وهي (صحرائي)، ما يجعل النص ذات خصوصية، برغم كل التعميم الذي كان في المفردات السابقة، فتأمّل. ثم انظر إلى الإضافة الثانية (هودج راحل) ومن البديهي أن الهودج يكون للنساء لا للرجال، ومن بين النساء يكون فيه خواصّهنّ لا عامتهنّ. ولما كانت المرأة ذات الهودج من خواص النساء فقد جاءت الإضافة لرجل لا لامرأة، لأنها لن تكون لوحدها بحال.
ثم عند تحليل الكلمات التي جعلناها مفاتح لمغاليق النص - والتي سميناها بالرموز الثقافية - نجدها ذات إفضاء وشجن، وذات ارتباط شديد بالعشق: فعبقر مرتبط بالجن والشعر، وهو إفضاء غيبي، وشعور بلذة مجهولة، وهذه اللذة هي التي جلبت معها المواويل وسلافة الخمر، وهما غاية اكتمال هذه اللذة. وإذا كانت الصحراء تدل على التماهي المطلق في المكان، فإن الهودج بيتٌ، وقد جاءت القوافي لتحد من التماهي والشسوع، مثلما جاءت الإضافتان: صحرائي للتعريف، وهودج راحل للتنكير أو التخصيص. وما أجمل المقامرة عندما تكون بالشعر! فأنت تلمح تحدِّياً خفياً، ورهاناً على الشعر، وحق لها أن تقامر وتراهن وتتحدى.
ثم انظر إلى جلال المعنى في قولها:
(تحنُّ مواويلٌ إِذا جُنَّ عاشقٌ
تذوَّقَ في المعنى السُّلافةَ في الخمرِ)
فالارتباط بين الشعر والعشق جليّ، فهي صرحت بالعاشق، وجعلت المعشوق معنًى لا ذاتاً. فإذا أنت أنت أبدلت كلمة عاشق بشاعر، وكلمة المعنى بالحبِّ، لاستقام لك الوزن كل الاستقامة، ولكنت قريباً من المعنى كل القرب. ولكنّ هذالتركيب الذي جاءت به الشاعرة أشد عمقاً وغوراً، لأنه يجمع المعنيين معاً. ولذا قلت لك إن هذه القصيدة كأنها رهانٌ، وما أجمله من رهان!
(خيالٌ تمشَّى في الجمالِ على هُدىً
وقَلبٌ كمُوسى مقتفٍ أَثرَ الخِضْرِ)
ثم يأتي الخيال، وتأتي العاطفة من خلال لفظتي خيال وقلب، وكأن الشاعرة تبين لنا العناصر التي تكوّن الشعر: الوزن والقافية، والعاطفة، والخيال.
وربما قصدت ذلك بتعمُّدٍ، ولكنك عندما تبحث عما لم تتعمدْه تقف على شاعرية حقّةٍ، وعشقٍ نبيل.
تعال معي إلى التناص الذي يزيد خصوبة النص ويقويه، فقصة موسى عليه السلام والعبد الصالح الذي يمثل القدر - والذي يعرف بنبي الله الخضر - قد وردت في سورة الكهف بأسلوب قصصي غايةٍ في الجمال والكمال، وهي من القصص القليلة في القرآن التي وردت واكتملت في موضع واحد، فقولها: على هُدًى تناص خفي مع قوله تعالى (أولئك على هدًى من ربهم وأولئك هم المفلحون) البقرة. وفي قولها (وقلب كموسى مقتفٍ أثر الخضر) تناص واضح مكشوف. فما الدلالة التي يمثلها كل تناص؟
يمثل التناصان عندي المحبة المطلقة للجمال، ويمثل الجمال كل ما في الحياة: من جمال حسي ومعنوي. وعندما يكون الإنسان على هدًى فإن الفلاح قرينه لا محالة. ومتى أيقن الإنسان بالجمال والهدى فما على القلب إلا الاستسلام المطلق، وما أجمل تلخيص المشد باستدعاء موسى مع العبد الصالح. ولكن هل صبر موسى في نهاية الأمر? في اعتقادي أن استدعاء الرموز - وإن بدا عابراً في ظن المتلقي، والشاعر نفسه - عندما يحضر يزيد النص خصوبةً، ولكنه يجعل النص غارقاً في ذات اللجة، وواقعاً تحت ذات التأثير الذي يعمل ببطء على مواءمة الأحداث بين النّص، والنّص الذي استُحضرت منه الرموز. وحينها فقط يزيد فهم الشاعر - قبل غيره - إلى معانٍ خفية في النص الذي تناصّ معه، كانت مبهمةً مِن قبل.
(وعيتُ من التَّسفارِ ما خفَّ حملُه
وأَحييتُ ميقاتاً على لجَّة البحرِ)
يعرف الاقتصاديون قبل غيرهم، وربما اللصوص أكثر أيضاً، أنك إن كنت مضطراً إلى أخذ القليل جداً مما تملك فستختار ما خفّ حمله وغلا ثمنه، والمسافرون أكثر درايةً بالأمر من غيرهم، لتفادي أمر الزيادة في الوزن، لأنها مُكلفةٌ جداً. وبما أن الشاعرة مقسمةٌ أسفارها بين أمريكا والسودان، فقد وظّفت الأمر توظيفاً شعرياً عالياً، واكتفت بنصف المقولة، لأن في هذا الاكتفاء عملٌ بجوهر المقولة كله.
ولكن ما هو الشيء الذي تشير الشاعر إليه بقولها: خفَّ حمله؟ ألا تجد تناصاً خفياً بين هذا وقوله تعالى: (إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملناها وأشفقن منها فحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا)؟. ألا ترى أن موقف الشاعرة هو موقف الإنسان من حمل الأمانة حين ظنّ القدرة على حملها? إنه الحُبُّ الذي ألمعنا إليه قبل قليل في قولها: (تحنُّ مواويل). وإنه حبّ المعرفة الذي قاد موسى عليه السلام مواعدة الخضر عليه. ولذا أطلّ ذات المشهد بين موسى والخضر عليهما السلام، فجاء البحر، واللُّجّة، والميقات، وتلخصت القصة في الفعل (وأحييتُ) وفي أمر آخر أشدّ خفاء، وأظنك - يا رعاك الله - قد انتبهت معي إليه، ففي اللغة العربية هنالك ثلاثة أحرف ذات مخرج واحد على تدرج في قوة الصوت، وهي بحسب القوة: الطاء، ثم الدال، ثم التاء. ولما كانت التاء وحدها بين ما ذكرنا هي التي خفّ حملُها فقد تكررت في هذا البيت خمس مرات، فتأمل هذه الموافقة العجيبة!. وأكثر الحروف تكراراً بعد التاء هي الياء، وهي العِلة التي نحن بصددها الآن - وهي مما خفّ حمله - والتي تمثلت في ثالث الحروف تكراراً وهو الحاء، أول أحرف الحُب!.
(جدارُ الوصايا كمْ طرقتُ غُيوبَه
بتفسيرِ إِيماءٍ تواترَ في السِّفرِ)
عندي أن هذا الجدار هو عقبة في الحياة، ولكنه جاء مضافاً إلى الوصايا فأُبهِم معناه عندي، وربما تسرّب هذا الإبهام من الشاعرة لأنها لا تريد الإفصاح، وما يقوي هذا الزعم عندي تواتر الألفاظ التي تزيد هذا الستر والإخفاء: طرقت، وغيوب، وتفسير، وإيماء، وسِفر.
فأي سفر هذا الذي حوى الوصايا? أنت تعلم أن الطرق يكون ليلاً، وهذا الليل قد ورد في البيت الأول مضافاً إلى ياء النفس، وقد ورد معه لفظ أسطوري وهو عبقر، ما يجل جدار الوصايا والسفر مرتبطين بذات الغيب، والذي ورد جمعاً بعد الطرق مباشرةً (طرقتُ غيوبَه)، وكأني بالعقل الباطن الذي يكتب تسعة أعشار القصيدة - غالباً - قد تفطَّن إلى تساؤلك وتساؤلي - يا صديقي - فذرَّ مزيداً من البخور على موقد الكاهِن، في عجُز البيت، الذي جعل التفسير إيماءً، متواتراً من سفرٍ نجهلُه ولا نعيه
ولا بُدّ أن تنقل ضبابية هذا البيت الميتافيزيقي القصيدة إلى الضفة الأخرى من اللُّجة، فنرى وجهاً خلاف ما رأينا. وباستخدام المنهج الإحصائي نجد موقع هذا البيت هو الخامس بين أبيات القصيدة، سواء أبدأت العد من البيت الأول أم الأخير، لأن القصيدة جاءت في تسعة أبيات.
(منافٍ هي الدُّنيا يزيدُ جُنونُها
وللحزنِ طوفانٌ يضيقُ على الصَّدرِ)
في هذا البيت انتقل النَّص من عموم اللفظ إلى خصوص السبب، وفي تقديري أن الجدار الذي ظهر في البيت السابق هو الذي أدى إلى هذا التقسيم الحدودي في النص بين ما هو عام وما هو خاص.
فأنت تلحظ معي أن كلمَتي: (منافٍ وحزن) لم يرد ما يعادلهما في كل الأبيات السابقة، فالشجن هنا عميق، والقلقُ تسرّب إلى النفس. فعندما وردت كلمة التّسفار - وهي معادلة للمنافي في دلالتها بصورة خفية - كانت حبيبةً ذات وقعٍ ساحرٍ، ولكنها الآن - بعد ظهور الجدار - قد تحوّلت إلى منفى، وكأِّني بالتسفار قد كان عودةً إلى الوطن الذي يمثل: الحبيب، والأهل، والشعر. وعندما وردت المنافي كانت في لحظة التّسفار المُضاد، وهو مغادرة الوطن إلى وطن آخر، فكان المنفى جالباً للحُزن. ثمّ أظنُّك قد قارنت - يا سيدي الكريم - بين ورود لفظتي الجنون في القصيدة (إذا جُنَّ عاشقٌ/ ويزيدُ جنونها) ألا ترى أن الجنون عندما ارتبط بالعاشق كان غاية في الجمال، فقد جلب معه: الحنين، والمواويل، والتَّذوّق، والسلافة من الخمر. ولكنه الآن جنون قد جلب معه الحُزن، والطوفان، والضيق. فتأمل.
(نَظلُّ على البئرِ التي جفَّ ماؤُها
ونخبو طويلاً في كسوفٍ من القَفْرِ)
هنا قد بلغ الحزن الزُّبى! وإن كانت البئر هي المعنى المقابل في الدلالة للزُّبية، لأنك بين علوٍّ شاهقٍ وانخفاضٍ سحيق. ثم انظر معي (جفّ، ونخبو، وكسوف، وقفر) هل مرّ عليك شجن كهذا قبل ظهور جدار الوصايا في النص? فالجفاف زوال الماء، والخبو زوال الضوء والإشراق، والكسوف عزلة الشمس بسبب القمر، والقفر زوال النعيم.
ثم قارن معي بين (صحرائي) و (القفر) تراهما لفظين مترادفين شيئاً ما في الدلالة، وكلاهما وردا معرفةً، بالإضافة و ال. وإن كانت الإضافة إلى ياء النفس خاصةً في التعريف، فإن دخول الألف واللام يجعل المعرفة عامة، ومع كل ذلك أنت لم تلمح معي حزناً ولا شجناً في ذكر (صحرائي) ولكنك الآن لا تنكره في كلمة (القفر).
ذكرت لك من قبلُ - يا صديقي - أن استدعاء الرموز يصبغ النّصّ بجوٍّ نفسي مماثل. وها أنت الآن ترى معي نتيجة ما رأى موسى عندما لم يستطع صبراً على ما يجهل، وكذلك الشاعرة لم تستطع صبراً عند ظهور أول عقبةٍ في وجهها، وهذه العقبة تتمثل في جدار الوصايا، الذي ورد في البيت السابق فقسّم القصيدة إلى قسمين: قسمٌ طغى فيه البِشرُ والإشراق، وقسمٌ آخر طغى عليه الحزن والإظلام. وثنائية التفسيم موجودة في النص بكثرة، وسأتركك تستمتع بجمال اكتشافها وحدك.
ورغم هذا التقسيم إلا أن النّصّ قد احتفظ بجوٍّ نفسي واحدٍ من أوله إلى آخره. وما عليك لكي تُدرك ذلك إلا أن تعود إلى البيت الأول لتفاجأ بكلمات مررنا عليها مرور الكرام لأنها لم تكن تمثل - عندك وعندي - غير حقلٍ ثقافيٍّ للنص، ولكنها الآن تمثل جوّاً نفسياً وصراعاً عجيباً، ظهر بوضوح بعد الجدار، فانظر معي إلى البيت الأول مرة أخرى:
قوافٍ بصحرائيْ وهودجُ راحلٍ
وعبقرُ في ليليْ يُقامرُ بالشِّعرِ
فوجود: الهودج، وراحل، وليلي، ويقامر كلها تمثل هذا الإحساس الذي ظهر في هذه الأبيات الأخيرة، وارتباطها بالسفر والتحوّل لا تخفى. فالهودج وراحل تدلان على السفر الصريح، والليل دال على تبدل الحال من الفرح إلى الحزن، والمقامرة هي جوهر القصيدة في الرهان على الحبِّ من ناحيةٍ، والرهان على الشعر من ناحية أخرى. وهأنذا أقسم أن دينا الشيخ قد كسبت رهانها على الشعر، وهذا ما يهم الناقد ولا شيء سواه.
(بِنا رِقَّةُ الأَزهارِ يُغْري عبيرُها
فتقطِفُنا الأَقدارُ من أثَرِ العِطرِ)
هذا البيت عندي غايةٌ في الإدهاش والجمال، وإن نظرت إليه بوصفه كلماتٍ مجردةً لربما تبادرت لك مئات الأبيات تحمل معناه، مثل قول زهير:
(ومن يجعل المعروف في غير أهله
يكن حمده ذمّاً عليه ويُذْممِ)
إلى قول إيليا أبو ماضي:
(كالورد ينفح بالشذى حتى أنوف السارقيه)
ولكنّك إن تعمّقت في الأحساس أدركت أن هذا المعنى لا يصدر إلا من أنثى، وأنّ الإحساس مزيج بين الحُّب والحسرة. ووحده الورد ما يُقطفُ لجماله، والنساء ورود أشدّ جمالاً. فيكون عشقنا إياهما وأنانيتنا سبباً في ذبولهما معاً، لأننا نتمنى أن يدوم جمالهما لنا وحدنا. فبسبب حبنا الشديد قد نتسبب في موتهما ونحن لا ندري. وقديماً قالوا (من الحبِّ ما قتل). ما خلق الوردُ إلا حُرّاً، فمتى أسرناه فقدناه، وكذلك المرأة. لذا قلت لك إن الرجل مهما أوتي من البيان فلن يقول مثل هذا البيت، لأن جوهرَه أنوثة طاغية.
(نعيشُ غُرورَ العاشقينَ وإِنَّما
تُباغتُنا الأَشواقُ من حيثُ لا نَدرِي)
ما زلت والله أحس جمال بيت علي بن الجهم ولا أدري سر جماله، فهو جمال خفي على العقل، شديد الوضوح إلى الروح:
عيون المها بين الرصافة والجسرِ
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وإن أنت أنعمت النظر في بيت دينا الشيخ وفي هذا البيت، لوجدتهما متحدين في الوزن والقافية وبعض المفردات على اختلافٍ في الترتيب (من حيث - لا أدري/ لا ندري).
ولا أقول قد تأثرت بالبيت فنسخت معناه، بل هي مستقلةٌ في إحساسها، ما يجعل المعنى مستقلاً أيضاً. وما أجمل قول نُصيب بن رباح وكأنه يفصح لنا عما نجهل، وقد وقف ذات الموقف فقال:
(أهابك إجلالاً، وما بِكَ قُدرةٌ
عليَّ، ولكنْ ملءُ عينٍ حبيبُها)
وبعض الشعر كالحب، عصيٌّ على الإدراك، قريب من الإحساس.
هذا البيت الأخير يحمل كل إحساس القصيدة، ذلك الإحساس الموسوي في اتباعه الخضر عليهما السلام، فقد كان موسى الرفيق الذي طلب المعرفة وقبِل بشرط معلمه قبل أن يدري، وما علم أن العلم سيكون أكبر من إدراكه، فخرق الشرط الذي قبله قبل التجربة، ثلاث مراتٍ عندئذٍ. وكذلك العاشقون، لهم غرورُهم، مثل موسى عليه السلام - إذ كان سبب وجود الخضر في حياته أنه لما طلب من ربِّ العزة بقوله (أرني أنظر إليك) كان هذا غروراً، وعندما أدرك استحالة الأمر أصابه غرور المعرفة، فسأل ربَّه إن كان في الأرض من هو أعلم من موسى النبي الكليم، فكان الخضر - وهذا الغرور يبدأ بعد الحب، ثم ندرك أن الحب أكبر من عقولنا بأشواقه ولواعجه وحنينه، فتكون المباغتة من حيث لا ندري.
أسامة تاج السر
Comments