رسائل في بريد الشعراء
أخي الشاعر الحبيب، تحية محبة، وبعد
فقد تابعت شغفك بالشعر، ووقفت على ذائقتك المرهفة وأنت تطربُ لإحسانه، وتسكرُ من دنانه، وتتبع أحسن بيانه، وتعمل على تأسيس بنيانه. وهأنذا أضع بين يديك رحلة ربع قرن من الزمان، في تبتُّل الشاعر بمحرابه، والعاشق في نار عذابه، أشاركك همّ الشعرِ، وأهبك بعض أسراره. اعلم أيّها الأخ الكريم، ما الشعر إلا لفظةٌ آنقُ من أختها، ساحرةٌ في روحها وسَمْتها، متى ضمت إلى مثيلاتها صرنَ كالحُور العِين، اللائي برئن مما يشِين. ثم اعلم أن هذه الألفاظ احتاجت أن تؤدي أماناتِها، وما أماناتُها إلا المعاني الأبكار، التي تسهر عليها الأفكار، ومتى وافق اللفظ معناه، كانا كالعروسين، كلاهما يأنس بصاحبه، ويحبه أن يكون بجانبه، فهما بين أنس وسعادة، يخشعان لهما خشوعهما في العبادة.
ثمّ إنّ زينة البيت الأبناء، وزينة الشعر البناء، فمتى أحكم الشاعر الموسيقى، وحالف في سعيه التوفيقا، فركب بحرًا من البحور، أدى لذاك البحر حقّه، ومستحقّه، لا يخرج عن تفعيلاته إلى غيرها، حتى لا يُثير غيرتها، وللبحور أسماء تعرف بها، وتفعيلات تتكون منها، وهأنذا أضع بين يديك أسماءها وخواصّها: إنَّ أشرف البحور باتفاق أهل الشعر والنقد هو الطويل، وله تفعيلتان تتكرران وفق نظام معلوم، أولاهما خماسيّة، والثانية سباعيّة، تتكرر كل واحدة منهما أربع مرات في البيت:
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلُ
كما فتكت بالغافلينَ القنابلُ
وإن كانت معلقات العرب التي عليها الإجماع سبعًا هي معلقة: «امرئ القيس، وطرفة بن العبد، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد بن ربيعة، وعنترة العبسيّ، وعمرو بن كلثوم، والحارث بن حلِّزة»، فإنّ ثلاثًا منها قد جاءت على البحر الطويل، وهي التي بدأنا بها الترتيب. والطويل صالح لكلّ جليل نبيل جميل.
وأخو الطويل البسيط، وله ما لسابقه من تناسق وتقسيم، خلا أن سباعيته سابقة، وخماسيّته لاحقة:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلُ
أما رأيتَ الظِبا بالحسن تكتحل؟
ولمّا كان البسيط أخا الطويل في كلّ شرفٍ، فقد تعجّب النقّاد لخلو المعلقات من هذا البحر، فكان أن جعلوها تسعًا لا سبعًا، فأضافوا معلقة الأعشى «ودع هريرة إنّ الركب مرتحلُ»، ومعلقة النابغة «يا دار ميّة بالعلياء فالسَّند»، وحق هاتين القصيدتين أن تكونا مع المعلقات، وإن لم يكن لذلك من سبب غير كونهما من البسيط لشفع لهما، فما بالك بجمالهما وجلالهما!
والمديد ثالثهما في أصل الدائرة، ولكنه متروك لجساوته، كما قال العارفون بالشعر، فهو لا يخلو من بداوة وشجن، يجيده من يحن إلى الأهل والوطن، ورأس قصائده التي قيلت في قتيل سلع، وما قالها النواسي على النهج المرقسي. فهو رباعيّ التفعيلات كسابقيه، ويخرج معهما من ذات الدائرة «المختلف»، غير أنَّه يأتي مقاربًا للرمل في صورته، ووزنه:
فاعلاتن فاعلن فعلُ حُبُّه في القلبِ يشتعِلُ
وإن انتقلت إلى دائرة الثانية «المؤتلف»، لوقفت على الكامل والوافر، وأهل العروض يقدِّمون الوتد على السبب، فقدموا الوافر على الكامل وجعلوه رأس الدائرة. وهما البحران الأكثر تواليَ للمتحركات، فكلاهما تتوالى فيه خمس حركات، بينها ساكن واحد، فإن تقدمت الحركات فذاك الكامل، وإن تأخرت فذاك الوافر، وكلاهما سداسي التفعيلات، إذ تتكرر التفعيلة الواحدة ست مرات:
متفاعلنٌ متفاعلنٌ متفاعلُ كملت ملامحه فذاك الكاملُ
والكامل صالح للتغنّي والترنّم، ترتاح إليه النفس في سرورها، فتؤثره على غيره من البحور، لا يُشاركه في هذا الجانب إلا البسيط، والحقُّ أنَّهما متشابهان جدّا.
ثم شقيقه الوافر:
مفاعلتن مفاعلتن فعولُ على ذا النسج قابلْ ما تقول
وصلاحيّة الوافر للنوستالجيا لا تخفى، وأبرع الشعراء فيه المخزوميّ والمتنبي، فوافريّاتهما من أعظم الوافريّات، وأشجاها!
وإذا تركب الكامل والوافر من التفعيلة الواحدة المكررة، فثمّ ثلاثة أبحر تجمعها دائرة «المشتبه» هي: الرمل والرجز والهزج، تتكون من تفعيلة واحدة مكررة، تتكون من سببين خفيفين، ووتد مجموع، فإن تقدم السببان معًا، فذاك الرجز:
مستفعلن مستفعلن مستفعلُ
شجرةٌ أفرعها لا تؤكلُ
وإن تأخر السببان معًا فذاك الهزج:
مفاعيلن مفاعيلُ وتنسابُ المواويلُ
وإن فرّق الوتد بين السببين فذاك الرمل:
فاعلاتن فاعلاتن فاعلُ حبُّهنَّ المستبدُّ القاتلُ
والرجز يصلح للخشونة وما يتّصل بوصف الطبيعة وحياة البادية، كما يصلح في التفعيلة إلى الشعر القصصي، لكثرة ما يجوز فيه من الزحاف والتنوّع. بينما الرمل شريف كالبحور الشريفة وإن كان أقصرها، والهزج لا يصلح إلا لوصف اللحظة العابرة الحلوة الظريفة الرشيقة، أو القصص الموجّه للأطفال، وقد أجاد فيه أصحاب القصص كثيرًا، ولعبدالله الطيب فيه أعجوبتان: «عمرو بن يربوع والسعلاة»، و»السندباد البحري»، وربما هما أجمل ما قيل في هذا الوزن. وإذا كانت التفعيلات السباعية قد كونت دائرتين معًا، فالتفعيلة الخماسيّة انفردت بدائرة «المتّفق» التي تكونت من بحرين، أولهما المتقارب، وثانيهما الخبب، فهما بين فعولن وفاعلن، أما المتقارب فهو:
فعولن فعولن فعولن فعو حبيبي لقلبك ما تشتهي
وأما الخبب فهو:
فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن
جاءني من رضا عاشقي ما يسُرْ
وإذا كان المتقارب شريفا يجمع بين أسر الطويل، وخفّة الوافر وتدفّقه، وقد أكثر منه الشعراء جدًّا، وبرع فيه الأعشى الكبير فكاد يبزّ جميع الشعراء فيه، فإنَّ الخبب قد نما وازدهر في شعر التفعيلة، فعندما اكتشفه شعراء التفعيلة كادوا يقدّمونه على كلّ الأوزان الأخرى. وأهمس في أذنك سرًّا، حتى لا يسمعنا عبدة أصنام التراث، الذين يحفظون ولا يتفكّرون، ويطيعون ولا يخرجون عن بيت الطاعة قِيد فكرة، فلتعلم أنَّ هنالك دائرة سادسة خفي أمرها على الخليل بن أحمد الفراهيدي! ولأجل خلطه بينها وبين دائرة المتَّفق أخفى أمر الخبب، فزعموا جهلًا استدراك الأخفش على الخليل، فمن علم سرَّ إحكام الخليل صنعته، يعلم أنَّ الخبب في صورة «فاعلن» لا يمكن أن يغيب
عنه. ولكنّه لما أهمل الدائرة السادسة، وخلط بينها وبين الخامسة، أخفى أمرهما معًا. وقد نبه القرطاجنّي على وزن واحد دون أن يسميه دائرة، فهو والمحققون من أمثاله ينكرون أمر الدوائر، فجعل من الخبب ما تفعيلته “متفاعلتن” ونضيف إليها “مفعولاتن”، وبها تكتمل كلّ التفعيلات التي أشار إليها الخليل. فتكون كل تفعيلة قد كونت بنفسها بحرًا، وهو ما كان مفقودًا في نظام الخليل المحكم.
ثم هنالك دائرة «المشتبه»، وبحورها ستة، هي: السريع، والخفيف، والمنسرح، والمجتث، والمقتضب، والمضارع، وهي عندي تمثل المرحلة الثالثة من مراحل نضج الشاعر. فعندما يبدأ الشعراء كتابة الشعر، إنما يبدؤون ببحور بعينها: (الكامل، والوافر، والرمل، والمتقارب)، فهي تجمع بين الحلاوة واليسر، إذ تتكون من تفعيلة واحدة مكررة بمقدار ثابت. ثم اعلم أن هذه البحور نفسها يختلف إيقاعها الداخلي عن وزنها، وهو ما يجعلها أسهل البحور وأعقدها في آن واحد، فالذي يقرأ معلقتي لبيد بن ربيعة:
عفت الديار محلها ومقامها
ومعلقة عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم
يكاد يُقسم على أن القصيدتين شديدتا الاختلاف في موسيقاهما.
وفي المرحلة الثانية من مراحل نضج الشاعر يعمد إلى المزج بين التفعيلات، فيدرك بذوقه وزني: الطويل والبسيط، فهما وإن كانا الغاية في النغم، إلا أن تركيبهما سهل ميسور، وذلك لبساطة التركيب نفسه، فالفرق بين التفعيلة السباعية والخماسية فيهما، مقداره سبب خفيف لا غير. وتكون العبرة كذلك بالإيقاع الداخلي لا بالوزن العام.
ثم في المرحلة الثالثة يصل قليل من الشعراء إلى دائرة المشتبه، وبحورها الستة. فهي شديدة التعقيد، لا يكاد يستقيم منها عند عامة الشعراء غير الخفيف ومجتثه، وهما إن تأملتهما أقرب إلى تحوير أصاب المديد، من كونهما مع المنسرح، والمضارع، والمقتضب في دائرة واحدة، وهذا ما جعلهما أكثر دورانًا من غيرهما.
أما بعد، فقد قرأت قصيدتك بعين الرضا، فوجدت فيها كثيرًا من الشعر، ولكنَّ ضيق الوعاء يفسد ما يُحمل فيه إن كان كبيرًا، والوزن وعاء الفكرة، فهو جامع بين اللفظ والمعنى، وهو منهما أعم. فأردت أن يكون حوار ما بيني وبينك ما ينفعني وينفع غيرك. وحتى الملتقى في محاورة أخرى، تقبل تحياتي، والسلام.
Comments