top of page

في أعقاب الفتنة

تاريخ التحديث: ١ نوفمبر ٢٠٢٣


بشير أبو سن

كتَبها "صلاح" فاقتاد الفتية المذعورون "جمال"

بشير أبوسن/الرياض

هذه حكاية حدث أدبيّ صغير على هامش حدث سياسيّ خطير، ما استطاع الزمان أن يفنيها، إذ لا شيء يبزّ الأدب الرفيع خلودًا. كانت الخرطوم قد خرجت لتوها من صدمة الأيام الثلاثة التي أُزيح فيها جعفر نميري عن الحكم في السودان، وأخذ هاشم العطا مكانه. الدخان منعقد في السماء، ثلاثة أيام لبَدَت خلالها الخرطوم، وظلّت مترقبة، غمرها ضباب الهلع، وصمتت تتسمّع، وفي اليوم الرابع، جاء الخبر، عاد النميري إلى قصره، بقدمين ملطّختين بالدماء، وساعديْن أشدّ فتْلا، وفي المدينة نسوة لبسن الحداد على رجالهن. بعدها ازداد البطش، ومال الناس إلى الإذعان، والغناء إلى الترميز، والطيور إلى الهجرة بعيدًا، فالأنفاس معدودة، والأسلحة معمّرة في الأيادي، والزعيم يسيء الظن بالجميع.

ولكن في أحد أحياء المدينة الصامتة، ثمة شاعر كان قد مسّه الألم مرتين، مرّة حين اقتيد صديقه زوج أخته إلى ساحة الإعدام، وأكثر المقتادين إلى الموت كانوا رفاقه، ومرة حين رأى بلاده التي هي أمُّه عاجزة مستضعفة، غارقة في يأسٍ شرس، فكان هذا الألم لا معين عليه، ففاضت روحه فنًّا. استجمع قواه، أدى طقوس الشعر، تضرّع لآلهته، فكتب قصيدة لا أكثر،

صلاح أحمد إبراهيم

كلمات وموسيقى، ودفعها للنشر. لم تكن الدماء قد جفّت بعد على التراب، ولم تكفَّ العيون عن البكاء الصامت، وعيون العسس ساهرة، لا ترضيها حركة. كان صلاح أحمد إبراهيم نفسه معرضًا للاعتقال قبل ذاك، إن لم يكن لمواقفه السياسية فلشعره الممعن في حبِّ بلاده، لم يعجبه ما فعله هاشم، ولم يكن يحبُّ جعفرًا أيضًا، وكانت به عذوبة شعرٍ، وشجاعة نفسٍ، وقوة عين، هو بهنّ مضرب المثل، وكان اسما لامعًا في سماء الشعر العربيّ، ولكن لم يكن وحده الشجاع في هذه الحكاية.

وصلت القصيدة إلى صحيفة "الصحافة" المؤمَّمة آنذاك، والأكثر انتشارًا، وكان على رأس تحريرها، رجلٌ فريد أيامه، مثقف ضخم من مثقفي العصر، وأديب من الطراز الأول، واسع الحيلة والذكاء، جِيءَ به مغضوبًا عليه إلى إدارة هذه الصحيفة، وهو في السادسة والخمسين من عمره، ذو مجد في العمل والتنظير، وكان قبلها سفيرًا للسودان في لندن، يجلُّه العلماء شرقًا وغربًا، وكتبه من النفائس في الفكر والأدب، ما كان الساسة الجدد أولئك ليعجبوا به، كان حكيمًا وذا دراية، وكانوا ثملين بخمر السلطة، فناله غضبُهم، وطالتهم سخريتُه اللاذعة، وأغاظهم هذه المرة بانتصاره للفن. أمسك جمال محمد أحمد بالقصيدة ذات الكلمات القليلة، والعواطف المتأججة، وجد تلميذه صلاح ذا الصوت الهادي، يقول في مطلعها مخاطبًا أمه الكبرى:

" على جبينك الوهَجْ

حمى، وأخدودُ همومٍ، ورهجْ

تشجّعي، أنت معي، تشجعي"

يمضي يتوسل إليها:

"تحادثي والنورَ في صمتٍ ولا تبوحي

تجلدي في فقدك المهول لا تنوحي"

ويستغرق في إغرائها:

"الشمسُ الضحوك في السماء باديةْ

فاستقبليها لوّحي بالزهرات النادية

تشرّبي من ضوئها: الشقوقُ كالجروحِ

تأهبي للخصب والنماءْ"

وتبسم جمال حين قرأ صلاح يبلغ بالتودد غايته:

"تشجّعي

مدي يديك للشفقْ

قولي له: إني أشَمُّ من عشبِ غدٍ دُعَاشْ"،

...

"لا ترجعي

هذا أوانُ لَذةِ البناءْ

وروعةِ العطاءْ

ونشوةِ التوقعِ"

لم يكن جمال - وهو رجل ذو خطر في دنيا الأدب، ومفكر له حواريوه - ليهاب سلطانًا، فالفنّ فنٌّ في مذهبه، لا عذر لحاجبه عن الناس، وهذه قصيدة تريد بعث الحياة في النفوس والطرقات. مدفوعًا بهذه القناعة الراشدة، كتب تقديمًا للقصيدة بكلمات خالدة، وعبارات واثقة، دافعت عن قيمة القصيدة، عن الفنّ والحريّة والأمل، وحاول جمال تلطيف وقعها، فتحدث عن ذوي

جمال محمد أحمد

الحسِّ حين يُفجعون. كتب وهو الذي نجح في اقتناء لغة عُرفت باسمه، يقول:

"الكل يدمى حين يُجرح، وجراح ذوي الحسِّ تختلف، دموعهم أبدًا على المآقي، تسيل تغسل الجراح". الفاجعة التي ألمت بنا في التاسع عشر من يوليو، أدمت البلاد في كلِّ ركن، وهزّت عقائد المؤمنين ببلادهم، قوية بعيدة عن إسار الغير إلا مَن عصم ربك – تتمثل القلة من ذوي الحسِّ، وهي قلة أكبر من الفواجع، يحيونها في فحولة وينظرون إلى أَمامٍ رافهٍ مشرق. الفواجع عندهم ثمن الخير المطل من على الألم، كل واحد ممن يمثلهم صلاح، أفحل من الفواجع، يعلوها، لأنه مؤمن بأرضه، رآها مسجاة تنزف، وناشد يقول: " قولي له إنّي أشَمُّ من عشبِ غدٍ دعاش"، وأمنا الأرض ستستجيب، تمضي كما أراد لها صلاح".

خرجت القصيدة إلى الضوء، تمهد لها كلمات جمال، قرأها كثيرون في الأسواق، والأندية والمدارس والمستشفيات والرواكيب، وقرأها أيضًا رجال الأمن "الفتيةُ المذعورون" كما وصفهم صلاح بعد ذاك، فاقتحموا مكتب جمال، في غزوة رعناء، واقتادوه.

وفي مكتبٍ شاحبٍ، إضاءته خافتة، تحلق الفتية المذعورون أولئك حول جمال، وبّخوه هددوه، أنذروه، قاموا وقعدوا، عيونهم خائفة، قبضاتهم مرتعشة. ولا شكَّ أن جمال كان يتبسّم في سخرية، يتلقى أسئلتهم، تحزنه سذاجتهم، يريدون حبْس ما لا تدركه القضبان، إنها جريمة عظيمة: كيف تنشر قصيدة كهذه؟، أرعبتهم ومزقت طمأنينتهم، ولمَ العجب؟ فليس من شيء أكثر هشاشة من مستبد غاشم محاط بالجنود. الآن ليس بيدهم سحبها، أفلتَتْ، وصلت القصيدة إلى غايتها، وخلدت في نفوس منتظريها، ولا تهمة تقف على ساقين، ولكنهم في قرارة أنفسهم أدركوا معدن هذين الرجليْن: التلميذ وأستاذه. وفي الحقِّ لم تكن القصيدة سوى "مرثية وإعلاء للأمل والحياة".

في مساء ذلك اليوم، ربما حكى جمال لأصدقائه ما حدث وربما كتم ذلك، وفي خلوته بين كتبه وأوراقه، سيستعيد كلمات صلاح: "لرُبّ فجر في الدياجير انبلجْ، وصحو يوم كامنٍ في أمل صغيرْ، يرقد بين الأذرعِ.. تشجَّعي".

يا لَلشعر!، يحاصَرُ فلا يستسلم، يُقتل فلا يموت، يُدفن فينبت ويثمر. إنّها حكاية عن انتصار الأمل على المحنة الدامية، خفة النور على ثقل الضباب، ورائحة "الدُّعَاش" على الموت، وكلمات صلاح وجمال على بنادق المستبدين، وابتسامتيْهما على أوجههم العابسة.





1 Comment


Essam Rajab
Essam Rajab
Aug 14, 2023

ياله مقال يا بشير، المقال - الأمل في زمنِ اليأسِ والرُعب والحرب.

Like
bottom of page