إذا كان الواقع الافتراضيّ - في ظلّ الثورة التكنولوجيّة الهائلة التي يشهدها القرن الواحد والعشرون - قد منحنا عديدًا من المزايا التي أصبحت دون شك عمادة رئيسة تتخلّل حياتنا اليوميّة، فإنّه ـ في المقابل ـ عزّز من ثقافة العولمة، وساعد على هيمنتها وانتشارها، بما يحقق أهداف ورغبات الجانب الأقوى في تلك الثقافة التي يتكوّن طرفاها من: مرسل يبث أفكاره وآراءه ويحاول ترويجها على المستوى العالمي، ومستقبِل يتمّ تهيئته بشكل غير مباشر لتقبّل هذه الأفكار، ومن ثمّ أصبحنا نشهد نشوء عوالمَ افتراضيّة، ومجتمعاتٍ افتراضيّة، وكذلك مدنٍ وجماعاتٍ وتيارات افتراضيّة، بل أصبحنا نسمع عن الإنسان الافتراضيّ، وكذلك المواطن الافتراضي. وكلّ ذلك أصبح خاضعًا لثقافة لا تحكمها الأعراف والتقاليد والأفكار التي تتعلق بالهُويّة، بل لمجموعة من الأفكار والمعتقدات التي يرى أبناء المجتمع الافتراضيّ الواحد أنّها مناسبة لميولهم ورغباتهم، مما أنتج في النهاية ما يعرف بالاستعمار الفكريّ والثقافيّ.
ويمكننا القول بأنّ ثقافة العولمة أصبحت مرتبطة بالتكنولوجيا إلى حدّ كبير، والتكنولوجيا الرقميّة منّها بشكل خاصّ، ذلك أنّ الفرد من خلال تلك التكنولوجيا أصبح بإمكانه: التواصل، والبيع، والشراء، والتعليم، والتعلم، والبحث، والمعرفة....إلخ، عبر واقع آخر موازِ لواقعنا الحقيقيّ، ومتماثل معه تمامًا، وهذا الواقع – الافتراضيّ – قائم على المحاكاة، واللا مركزيّة، ويتمتع فيه الأفراد بحريّة مطلقة، بعيدًا عن الخضوع لسلطة محددة، أو أعراف خاصّة، وكما يصفه لنا أستاذ الرقميّات (جارون لانيير): هو عالم موازِ لعالمنا الحقيقيّ، يتمّ فيه مزج أنظمة الحاسوب مع الأصوات والصور وتكنولوجيا ثلاثيّات الأبعاد من أجل إيهام المستخدم بأنّه يعيش داخل واقعه الحقيقيّ، وهذا الواقع قد تحوّل مع الاستخدام المفرط له إلى حياة أخرى مستقلّة تسهم في التعايش والتواصل على مستوى كافة المجالات الإنسانيّة، وأصبح عدد كبير من الأفراد يرتبطون به ارتباطًا قويًّا، ومن ثم تشتغل ثقافة العولمة – عبر هذا الواقع- من خلال عمليتي الهدم والبناء، وهما عمليتان متلازمتان في الوقت نفسه، الأولى: هدم الأفكار والعادات والسلوكيّات المسبقة للفرد، عن طريق عزله – قدر الإمكان- عن واقعه الحقيقي، بما يضمن تخليه عن هويته، أو التشكيك في ثوابتها، ولا سيما هويّته الثقافيّة، والثانية: بناء أفكار ومعتقدات جديدة مغلفة بثقافة الآخر المهيمن، وخاضعة لأفكاره، كلّ ذلك عن طريق إيهامه بأنّه يمارس حرّيته المطلقة دون حدّ أو قيد، ومن هنا تظهر تلك الثنائيّة التي تشير إلى ثقافة العولمة في تحقيق عولمة الثقافة، وإن كانت تلك الأخيرة تتمّ بطرق ووسائل شتى، إلا أنّ الاعتماد على العوالم الافتراضيّة المتمثّلة في مواقع التواصل الاجتماعيّ، وغيرها من المنصات الإلكترونيّة، أصبحت من أنجع الطرق وأسرعها في تحقيق ذلك، لا سيما إذا عرفنا أنّ نسب استخدام الواقع البديل (الإنترنت) على المستوى العالمي تتعدى نصف سكان هذا العالم، حيث تشير الإحصائيّات العالميّة إلى أنّ 63% من عدد سكان العالم يستخدمون الإنترنت، بواقع 5 مليارات فرد من إجمالي سكان العالم في عام 2022م البالغ عددهم 7.93 مليارات فرد، كما يبلغ عدد مستخدمي الشبكات الاجتماعيّة بأنواعها المختلفة 4.65 مليارات فرد على مستوى العالم، كما أنّ متوسط ما يقضيه الفرد يوميًّا على شبكة الإنترنت يقترب من سبع ساعات.
إنّ عولمة الثقافة تتأكّد – من خلال ذلك الاتجاه - بتلك الازدواجيّة المعرفيّة والثقافيّة التي أصبحت سمة الإنسان الافتراضيّ، فهو يهرب من واقعه الحقيقيّ بمشكلاته وقيوده إلى واقع بديل، يحقّق له رغباته وميوله، ويجعله أكثر انفتاحًا على الآخر، فيبدأ الفرد في التخلي عن هويته، مقابل الإيمان بهويّة عالميّة جديدة تحققها المعلومات، والصور والرسومات، والبيانات، والأفكار التي أصبح يستقيها داخل هذا الواقع البديل، والتي أصبحت تسهم في تشكيل وعيه وثقافته، هذا بالإضافة إلى قدرة تلك الهويّة الجديدة (الثقافة العالميّة) على التسلل داخل حياة الأفراد بشكل كبير، من أجل فرض أكبر قدر ممكن من السيطرة والتحكم، وذلك عن طريق التعرّف على ميول ورغبات الأفراد بطريق مباشر أو غير مباشر، ويمكننا عند قراءة كتاب (الرقميّون، أنت مراقب 24/24) للكاتب الأمريكي (ستيفن بايكر) أن نعرف كيف تستطيع العولمة أن تفرض ثقافتها، وتؤكد حضورها.
إنّ ثقافة الاستهلاك من أهمّ المبادئ التي تقوم عليها العولمة، وتحرص الدول القويّة على تعميم تلك الثقافة ونشرها من أجل جذب الأفراد والجماعات، وفي المقابل تقوم تلك الدول بإنتاج وتوفير الاحتياجات التي لا تستطيع الدول الفقيرة توفيرها، ذلك من أجل الوقوف دائمًا في المقدمة، وفرض ثقافتها وهيمنتها من خلال ذلك، ويتمّ هذا على مستوى كافة المجالات: العسكريّة، والاقتصاديّة، والثقافيّة، وبما أنّ التكنولوجيا الرقميّة أصبحت من أكثر المنتجات التي يتمّ استهلاكها في عصرنا هذا – يرجع ذلك إلى أهمّيّتها الكبيرة في حياتنا- فإنّ تلك الثقافات القويّة أصبحت تهتمّ بإنتاج وصناعة تلك التكنولوجيا، كما أنّها استطاعت من خلال ذلك أن تبث أفكارها وسياساتها المختلفة من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى وهو: عولمة ثقافتها هي وحدها دون غيرها، يرتبط ذلك بثقافة الأقوى والأضعف، ذلك أن الأخير يقف دائمًا في الخلف، وينتظر من الأقوى أن يفكّر ويخطط له، وأن يمدّه كذلك بما يجعله يتعايش، فتظهر فكرة التبعيّة والخضوع.
وإذا دققنا النظر في فكرة عولمة الثقافة نجد أن الموضوع المهمّ ليس هو تلك الأفكار التي يتمّ استعمارنا فكريًّا من خلالها، بل يرتبط الموضوع بالهويّة، وهل هويّة ذلك الآخر تتوافق مع عاداتنا وأعرافنا، وهويتنا بشكل عام؟ في الوقت الذي لا يمكننا فيه التخلّي عن تلك الثقافة الوافدة إلينا؟ أو قل إن صح التعبير: لا يمكننا رفض فكرة العولمة بشكل عامّ وكليّ! ذلك أنّنا ما زلنا ننتظر ما تصدره لنا الثقافات الأقوى، على المستوى الفكريّ والماديّ، ومن ثم يجب علينا أن نقف موقفًا وسطًا من فكرة العولمة، فنأخذ منها ما يتوافق مع هويتنا، ونرفض ما يخرج عن ذلك، فإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعيّ ـ على سبيل المثال ـ توفر لنا فكرة التواصل، فيجب أن يكون هذا التواصل في حدود المعقول والمفيد، وإذا كان الواقع الافتراضي ـ بشكل عام ـ قد أصبح ضرورة ملحة في حياتنا فلا بدّ من الوعي التام بأضراره قبل مميزاته؛ حتى لا نجدنا مدفوعين إلى هاوية العولمة.
Comments