عولمة الإعلام الثقافي السعودي
نايف إبراهيم كريري
المملكة العربية السعودية
أفادت الثورة التقنية الحديثة في مجال الإعلام من الفرص التي أتاحتها العولمة بمفاهيمها المتعددة، وفي المقابل استطاعت العولمة توظيف التقنيات الإعلاميّة المعاصرة للإسهام في انتشارها، ممّا أوجد لنا ما بات يعرف بالعولمة التقنية التي اجتاحت العالم اليوم؛ وهو ما مكّن مختلف التقنيات الإعلامية الحديثة من الوصول إلى أصقاع عديدة والنفاذ إلى مجتمعات كثيرة، وتزايدت أعداد المستخدمين لوسائل الإعلام الجديد بشكل كبير، وهو ما توضحه الإحصاءات والأرقام في العديد من الدراسات والأبحاث لأعداد المستخدمين لمواقع التواصل الاجتماعي التي تنمو يومًا بعد آخر، ومن وسيلة إعلاميّة إلى أخرى، وهو ما انعكس على طبيعة الممارسة التواصليّة لمفهوم الإعلام الذي أصبح معولمًا، فظهرت ثنائيّات إعلاميّة؛ مثل: إعلام جديد في مواجهة إعلام تقليدي، مما أثّر ذلك على مستوى المستخدمين من قبل الأفراد والمؤسسات.
وانعكس تأثير هذا الاتجاه الجديد في مفهوم العولمة، والتطور التقني الحديث على المستوى الثقافي، أو ما بات يُعرف بالقوة الناعمة التي تهتم بها الدول؛ لتعزيز جوانب التبادل الثقافي، مفيدة من تمظهرات العولمة التقنية، والتي من أهم وسائلها الشبكة العالمية - الإنترنت، التي تُعد تحوّلًا كبيرًا في التاريخ التواصلي الإنساني، ولها تأثيرها الواضح في الحياة البشرية الحديثة، والمضي في هذا الاتجاه وفق تعدّديّة ثقافية تنسجم وقوة المنتج الثقافي المحلي المتنوع لدولة كالمملكة العربية السعودية للوصول إلى العالميّة.
ومن هذا المنطلق تكّرس الدول جهودها لدعم الخطاب الإعلامي الثقافي، بوصفه أهم الخطابات الإعلامية؛ لما يحمله من حضور مهم في التأثر والتأثير والتبادل على المستويين المحلي والعالمي، وذلك من خلال محدّدات الخطاب الثقافي والأسس التي ينطلق من خلالها متمثلة في الإمكانات الثقافية المختلفة، وتقديم الإعلام الثقافي خطابه بقوالب الإعلام الجديد إلى جانب الوسائل الإعلاميّة التقليدية كـ(الصحافة، التلفزيون، الإذاعة.. إلخ)، ونقله إلى العالمية.
ولأجل ذلك يبرز دور الخطاب الإعلامي الثقافي، وبخاصة في زمن العولمة الثقافية التي تُهيمن بأثرها على الفضاء الإعلامي العالمي، حيث تبحث هذه المقالة بيان الدور الواجب على الإعلام الثقافي القيام به في المملكة العربية السعودية من خلال أدواته المختلفة، وبخاصة بعد إنشاء وزارة للثقافة، وفي ظل وجود مؤسسات أخرى مُتعددة تُعنى بالشأن الثقافي، إلى جانب النظر في كيفية تطوير آليات هذا الخطاب ولغته الإعلامية ليكون مؤثرًا في عصر العولمة.
وتسلّط المقالة الضوء على هذا الموضوع، انطلاقًا من النظرية الثقافية التي تعطي الثقافة والوسائل الإعلامية التثقيفية دورًا أساسيًا في المجتمع، حيث توجه هذه النظرية الاهتمام بكل من الرسائل الإعلامية والجماهير المستهلكة لهذه الرسائل، وهو ما يعكس التعددية والتنوع الثقافي الذي تتيحه اليوم العولمة.
المحاور:
1. مقومات النهوض بالإعلام الثقافي في السعودية:
في ظلّ التطوّرات والتحوّلات التي تشهدها وسائل الإعلام في عصر الثورة الرقمية، والنقلة الكبيرة التي يشهدها النشر الإعلامي بصوره التقنية المتعددة، الذي انعكس أثره على واقع كثير من وسائل الإعلام الثقافي السعودي، الذي تقلص دور عدد منها لأسباب عديدة؛ من أهمها عدم مواكبة صدورها ونشرها، مفيدة من طرق الظهور الحديثة عبر وسائط الإعلام الجديد.
قامت بدايات الإعلام الثقافي في السعودية على العناية بالأدب عبر صحافتها، وفي ثنايا أعدادها، من خلال جهود فردية وشخصية بعيدة عن المؤسساتية، حيث تبنت نشر مقالات أدبية توغل في التخصص أحيانًا، وتناقش في أحيان أخرى قضايا أدبية ونقدية وثقافية عامة، فقد كان الأدب في هذه المرحلة يصنع الصحافة، ولم تكن الصحافة هي التي تصنع الأدب. وفي مرحلة تالية كان العكس هو الصحيح إذ إنّ الأدب أصبح صنيعة الصحافة وابنها المدلل، فأصبحت الصحافة مساحة للساحة الأدبية التي يميل إليها الأدباء والباحثون عن الثقافة والأدب باعتباره جزءًا من مفهوم الثقافة الواسع، وهو ما انحسر لصالح هذا المفهوم الثقافي الذي تبلور بعد ذلك بشكل نسبي في الصحافة الثقافية، ولكنه لم يترجم إلى عمل ثقافي على الساحة من خلال الكثير من الأفكار الثقافية التي يمكن أن توجد على أرض الواقع بعيدًا عن الخيالات الأدبية، والنظريات النقدية، والصور التشكيلية..، ودون تقديم شراكات ثقافية مع عدد من الجهات ذات الشأن لتقديم مشاريع ثقافية تبقى راسخة للأجيال، أو الاستفادة من تطور وسائل ووسائط الإعلام الجديد.
ولم تكن القنوات التلفزيونية أو المشاريع السينمائية، وكثيرًا من إذاعات الراديو تُقدّم ثقافة تذكر، وإلى عهد قريب لم نكن نظفر بكثير من البرامج الثقافية على شاشات التلفزيون أو السينما، سوى أثير الراديو الذي ظل متقاربًا مما تطرقه الصحافة الثقافية، ووجدت فيه بعض البرامج الثقافية طريقها لأذن المستمع.
لقد أصبحت وسائل الاتصال رمزًا لتراجع الإعلام الثقافي، فالأعمال المقدمة من قبل وسائل الاتصال عادة ما تنشد السهولة أو الامتثال للتقاليد، تود إشباع الرغبات المتواضعة أو التوقعات الأقل تطلبًا، وقد نبهت حنة آراندت في كتابها "أزمة الثقافة" الذي صدر عام 1954، إلى خطر انحلال الثقافة في الترفيه، بقولها: "إنها (وسائل تسلية) تُدمّر الثقافة لإقناع الجماهير بأن "هاملِت" قد تكون مسلية مثل "ماي فير لايدي"، ولماذا لا تكون تربويّة مثلها أيضًا". وفي العام 1987، قال (ألان فينكلكراوت) في كتابه "هزيمة الفكر": "إن وسائل الاتصال، الخاضعة لقوانين السوق تدعم النسبية الناهشة أو المدمرة: كل الأمور تتساوى. إذن لا شيء له قيمة سواء كان إسحاق ستيرن والبيتلز شكسبير وتوب. (الميديا، فرنسيس بال، ص122)
إنّ مواكبة الإعلام الثقافي السعودي لواقع العصر ورهانات التغيير يُحتّم عليه الاستفادة من تقنيات الإعلام الحديثة؛ لتعكس من خلاله حضورًا ثقافيًّا وأدبيًّا ونقديًّا، وذلك من خلال ارتقائه بأساليب النشر؛ من أجل الوصول إلى قاعدة جماهيرية أوسع بات اهتمامهم واستخدامهم لوسائل الإعلام الجديد أكثر من ذي قبل، وأن تكون هذه الصحف والمجلات في مستوى التأثير والانتشار الذي يُقدّمه الإعلام الجديد، وعلى مستوى عالٍ من المهنية والاحترافية والجودة لتعكس في مضمونها أبعاد الحضور الثقافي بشتّى تخصصاته وفروعه.
إنّ الإنتاج الثقافي بمفهومه الشامل في عالم اليوم يمرّ بمرحلة متطوّرة، ويستند على مقوّمات مختلفة، في ظلّ صعود الإعلام الجديد، وبروز أشكال متنوعة من وسائل ومنصات هذا الإعلام، ولذلك فإنّ الأدوار التمثيليّة لوسائل الإعلام الثقافي السعوديّ لا بد أن يتماهى وهذه المرحلة، من خلال الاستفادة والاعتماد على وسائل الإعلام الحديثة، التي تختلف في طريقة نشرها عمّا كان مُتعارفًا عليه في الساحة الإعلامية والثقافية سابقًا.
وتحظى وسائط الإعلام الجديد بكم كبير من المتابعة والاهتمام، ويمكن من خلال استخداماتها المتعددة معرفة كثير من أنماط المستخدمين واهتماماتهم، وهو ما يشكّل داعمًا كبيرًا لتبني الحضور الثقافي والأدبي والنقدي الملائم عبر واقع هذه البيئة الإعلامية الجديدة، وطرحه بتقنيات نشر مختلفة تصل للجماهير، وترتقي برغبات المتلقين والمهتمين، ويغدو معها الإعلام الثقافي السعودي أداة تواصلية فاعلة في زمن العولمة.
2. مستقبل عولمة الإعلام الثقافي السعودي:
يتيح ولوج الإعلام بشكل عام، والإعلام الثقافي السعودي بشكل خاص، لعالم الثورة الصناعية الرابعة تقنيات جديدة لوسائل الإعلام؛ مثل: إنترنت الأشياء، والواقع المعزز، والبلوك تشين، والذكاء الاصطناعي، إلى جانب الطباعة ثلاثية الأبعاد، والروبوت، والتي سوف يكون لها تأثيرًا كبيرًا على صناعة الإعلام خلال المرحلة القادمة.
وأعادت التقنيات الجديدة في بيئة الإعلام الرقمي تشكيل الممارسة الإعلامية، سواء على مستوى إنتاج وسرد المضمون بأساليب تتوافق وطبيعة المنصة الرقمية من جهة، أو التحول في أساليب تعاطي الجمهور الرقمي مع هذه المضامين من جهة أخرى، فقد طرأت تطوّرات حديثة في مجالي تقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي ألقت بظلالها على واقع الممارسة الإعلامية في البيئة الرقمية المرتبطة بالإعلام الرقمي.
إنّ التغير الذي أحدثه ويُحدثه التطور التقني يتمدد ليشمل جميع المجتمعات بما تمثله من جوانب مختلفة يُعدّ الإعلام الثقافي أحد أبرز هذه الجوانب، وبالتالي فإنّ تماهي هذا النوع من الإعلام مع هذه التطورات والتغيرات يضمن حضوره ونموه من خلالها باختلاف مدى قدرته على التكيف مع هذا الواقع، لا سيما وأنّ هذا الحضور يأتي مستفيدًا بشكل أكبر من كلّ هذه التقنيات الحديثة في عالمها الافتراضي، الذي يؤثر ويتأثر ويفيد ويستفيد من كل هذه المبتكرات التكنولوجية الحديثة.
وفي ظلّ هذه التغيرات التقنية الإلكترونية الحديثة، فإنّ الحديث عن تصور مستقبلي للإعلام الثقافي السعودي يستلزم طرح مزيد من الحلول والمقترحات النوعية والتقنية والفنية، وذلك للمساهمة في تمهيد الطريق لهذا الإعلام في ظل تسارع الرقمنة وطغيانها على الحياة اليومية، ومن ذلك:
أولًا: الاستثمار في شبكات مواقع التواصل الاجتماعي بما يتوافق وخصائص هذه المواقع؛ فموقع تويتر يختلف عن الفيسبوك، كما يختلفان عن سناب شات، وغيرها..، فلكلّ منصة من هذه المواقع خصائصها المتنوعة عن بعضها في نشر المحتوى، ولكلّ موقع أيضًا مميزاته التي قد تتناسب مع خصائص نوع من الإعلام دون غيره، ولذلك فإنّ الاستثمار من خلالها يتركز في كيفية إدارة المحتوى المناسب للمنصة المناسبة.
ثانيًا: المدوّنات - بوصفها تطبيقً رقميًّا - تعد وسيطًا مناسبًا لتقديم الإعلام الثقافي السعودي محليًا وعالميًا وبلغات مختلفة، ذلك أنها أسلوب تقني تغلب عليه النزعة الفردية، وإتاحة مساحة حرة وكبيرة للنشر من خلالها باستخدام مختلف الوسائط المتعددة للنشر.
ثالثًا: الاستفادة من الـ (يوتيوب) من خلال إنشاء ودعم قنوات تفاعلية وتشاركية وذات بث مباشر لكثير من المحتوى الرقمي للإعلام الثقافي السعودي، إذ تحظى اللغة البصرية المتمثلة في الفيديوهات الرقمية باهتمام كبير من قبل المتابعين بمختلف الأعمار والثقافات.
رابعًا: استخدام خدمات الحوسبة السحابية في إدارة البيانات المخزنة، والتي توفر مساحات متنوعة لحفظ واستعادة كثير من المحتوى الرقمي للإعلام الثقافي السعودي.
خامسًا: إنشاء التطبيقات المتوافقة والمخصصة للهواتف الذكية؛ لتقديم ونشر الإعلام الثقافي السعودي الرقمي، حيث تحظى التطبيقات بمتابعة كبيرة لسهولة استخدامها وسرعة الوصول إليها من خلال الهاتف المحمول، كما أنّ تصميم وخصائص التطبيقات تعطي مساحات أكبر للنشر والتأثير.
سادسًا: اتباع استراتيجيات التسويق الرقمي الناجح، وممارسات جذب الانتباه للمتلقي عند تقديم الإعلام الثقافي، فليس كل محتوى يمكن نشره بشكل عام دون الاستفادة من خصائص وسائل الإعلام الرقمية، والتي يمكن من خلالها تحديد المتلقي المستهدف من هذا المحتوى، كما يمكن من خلال هذه الخصائص استخدام الوسائط المتعددة التي تتناسب والجمهور المستهدف.
وقد تنامى هذا الفن مع جيل الألفية وبروز التقنية الحديثة، وأصبح التسويق من خلال المحتوى استراتيجية ناجحة في الجذب والإقبال، حيث يُساهم في الوصول للمستفيدين عن طريق تقديم محتوى مفيد لهم، وقيمة عالية.
سابعًا: الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي التي باتت تعد ثورة جديدة في صناعة الإعلام لا حدود أو قيود كثيرة عليها، ولذلك فالمنافسة في هذا المجال أصبحت قوية للغاية، والرابح في السباق من يقتنص تلك الفرص، ويستحوذ على أحدث التقنيات الحديثة، ويعمل على دمجها في صناعة الإعلام أيًّا كان مجاله أو اختصاصه.
Comentarios