top of page

عن المدينــة والنـــهرالبصــرة: بندقيّـــــة الأقاليــم الاستوائيّة

تاريخ التحديث: ٢٥ يناير


لؤي عباس

لؤي حمزة عبّاس - العراق

ها هي البَصرة، روح العراق الغامرة، تفتح كتاب حياتها فيكون الشط الكبير، "شط العرب" أول سطورها وأكثرها تموّجًا وعذوبة، فـ "بندقية الأقاليم الاستوائيّة" لا تكون بغير الشطّ، كعادة المدن القديمة، ولا يكتمل تاريخها من دون أجنحته الموجيّة وسماواته التي تفتح مشابكُ السعف فيها أروقةً نادرة، تتشكّل في فتحات خوصها الأعمار والأحلام، فأن ترفع رأسك ساعة يتأوّد بك بلمٌ على شط العرب يعني أن تبتكر حلمًا وتغيب في حلم، موجة، سعفة، أو خفقة جناح، لن يحتاج الأمر إلى ما هو أشدُّ خفةً وأسطع بريقًا لينفتح حلم المدينة.



البصرة

بين المدن العظيمة والأنهار حكاية حافلة، يكتب الناس كلماتها عبر عصور من الجهد والعمل، وإذا كانت الحكايات جميعها تفتتح بكلمة وتُختتم بأخرى، فإنّ حكاية المدن والأنهار تكشف ضربًا آخر يُفتتح بكلمة أو بقطرة، لتظلّ رافدًا طويل الأمد للكلمات والأمواج وهي تؤدّي مهمّاتها العظيمة، الكلمات وهي تضيء العالم، والأمواج وهي تغذيه بسرّ الحياة، فتشرق الحكاية حين يصبح النهر سطرًا في كتاب المدينة، وحين تغدو المدينة حلمًا من أحلامه، عندها تنعكس المدينة موجة على سطح النهر، وتكبر على ضفّتيه، فيكون باب النهر بابًا للحياة، وأجراسه نجومًا في سماواتها الفسيحة، الأجراس التي أنصت السيّاب، شاعر البَصرة، لرنينها المتلاشي وهو يستعيد قريته جيكور من قاع بويب، نهرها الحزين كالمطر. الأنهار شواهد حيّة على دأب الإنسان، وهو يُنصت لما بين المدينة والنهر من علاقة غامرة ضفتاها الليل والنهار، فهي تنبثق لكي تحيا وتدوم، حيث يحمل النهر صورة المدينة بتفاصيل أعوامها مرتسمة على مراياه لتلتقي مع ملايين الصور، وتذوب فيها لتولد من جديد، إذ تتوالد المدن مع كلِّ خفقة موج لتحيا مع الأنهار، إنّ الخفق الدائم المتّصل للنهر، والتوالد اللانهائي للمدن يمنحان الأمر حياة لا حدود لها، فتولد المدينة في اللحظة التي تنفلت فيها موجة من بين مئات الموجات، وتنزل إلى الرحم الدافئ الخصب، حيث تشتبك المدينة والنهر، وحيث يُنصت إنسان الضفة لما بينهما من أحلام.

مدام ديولافوا

ها هي البصرة، روح العراق الغامرة، تفتح كتاب حياتها فيكون الشط الكبير، "شط العرب" أول سطورها وأكثرها تموّجًا وعذوبة، فـ "بندقيّة الأقاليم الاستوائيّة" لا تكون بغير الشط، كعادة المدن القديمة، ولا يكتمل تاريخها من دون أجنحته الموجيّة وسماواته التي تفتح مشابكُ السعف فيها أروقةً نادرة تتشكّل في فتحات خوصها الأعمار والأحلام، فأن ترفع رأسك ساعة يتأود بك بلمٌ على شط العرب يعني أن تبتكر حلمًا وتغيب في حلم، موجة، سعفة، أو خفقة جناح، لن يحتاج الأمر إلى ما هو أشدُّ خفةً وأسطع بريقًا لينفتح حلم المدينة مثل مروحة صينية على مرّ العصور، فتنصت مع إنسان الضفة لـ"مدام ديولافوا"، الرحالة الفرنسية، وهي تمخر مياه شط العرب في رحلتها البحرية إلى العراق في العام 1881م، "ها نحن أولًا نخترق شطّ العرب فرحين مسرورين من دون أن يعكر صفونا شيء.. ننظر إلى ضوء القمر الفضي بروعة وافتتان، كأنّنا في البندقيّة.. ولكن لا، ليست هذه بندقية إيطاليا، بل هي بندقية الأقاليم الاستوائية، السماء صافية رائعة لا تجد فيها قطعة صغيرة من الغيوم، والبيوت مختفية تحت ظلال غابات النخيل الكثيفة وأشجار الليمون المثقلة بأثمارها ذات اللون الأحمر الجميل، وأشجار الموز التي تزيد هذا المشهد روعة وإبداعًا". إنّ مدام ديولافوا وهي تلتقط بعين الرحالة الذي رأى واكتشف، تتحسّس شطّ العرب، وتتبيّن تفاصيل حياته وهو يشكّل لوحة شرقيّة مميّزة بيْن لوحات الطبيعة المائيّة في العالم، فالسماء والأشجار والبيوت المتجاورة على الضفاف العشبيّة الممتدّة، تتعاضد لتمنح الشطّ حضوره الآسر، لا أمام عيني مدام ديولافوا فحسب، بل في ذاكرتها التي تلتقط مفردات المشهد وتعيد إضاءته بلمسة من خيال "الدور واقعة على الضفاف، يُخيل تارة أنّها تسبح في مياه النهر، وتارة أخرى كأنّها منتصبة على جانب سدّ ضيق بإباء وإغراء! وأمام صفّ هذه الدور المترامية تجد الزوارق الجميلة وقد رُبطت بالساحل بشكل رائق أخاذ، والخلاصة أنّه لا يوجد شيء هنا إلا وهو جميل فاتن من بساط أخضر زاهٍ، من أشجار الفاكهة ومجاري المياه الهادئة، وسماء شفافة مرصّعة بالنجوم المتلألئة!"


إنّ لشط العرب تاريخًا يمتدّ بعيدًا قبل أن تنظر مدام ديولافوا لمشهد الحياة البصرية أوائل الربع الرابع من القرن التاسع عشر، فتصدمها، بعد روعة المشاهد النهرية، مزاجية المدينة التي لا يزال تقلب أجوائها سمةً من سماتها اليومية. في مزيج من لمسات فردوسية تقترحها الصباحات وتحتفي بها أشهر التغير الفصلي، فليس للبصرة سوى فصلين سيدين: الشتاء والصيف، بجبروتهما وسطوة مزاجيهما، وليس من الغريب أن تلمس اليوم، ونحن نشهد، سنة بعد أخرى، مظاهر التغير المناخي، إمكانية امتزاجهما في نهار واحد ليمزجا معهما الفتنة بالبشاعة، "الواقع أن البصرة مدينة غريبة، إنها تريك مشاهد مختلفة في اليوم الواحد، في حالة المدّ عندما ترتفع المياه وتغطي الساحل يخيل إلى المرء أنه في الجنة الموعودة! وعندما تهبط المياه وترجع إلى حالتها الأولى فيتصور أنه قد ترك الجنّة ووقع في غدران نتنة!".. إن النهر الذي يشكّل فاصلًاطبيعيًّا للمدينة يمتدّ من الشمال، حيث ملتقى نهري دجلة والفرات، إلى الجنوب ليصبّ في الخليج، يحيط جهتها الشرقية، يمثل دورًا مؤثرًا في هذا المزاج، فالمياه التي تمنح المدن أسرار جمالها وتسهم بكتابة تاريخها، تفرض رغباتها وأمواج أمزجتها على تلك المدن، حتى غدت سمة التقلّب والتغيّر ملازمة لأجواء مدن الأنهار، مثلما كان مزاج التصحّر بحدّته وجفاف رياحه سمة من سمات المدن التي تفتح بواباتها على الصحراء.

الكسندر أداموف

إنّ مقارنة البصرة ببندقيّة الغرب غالبًا ما استوقفت الرحالة والمؤرخين المستشرقين منهم على نحو خاص، ومنهم من تأمل هذه العلاقة عن قرب وتفحص مظاهرها، إذ لم يكن التشابه مقصورًا على ما بين النهر والمدينة من صلة وتأثير، بل إنّ لشبكة الأنهر التي تمتد إلى منازل البصريّين لتمسح عتباتها، ما كان عاملًا مضافًا من عوامل المقارنة، لكنّنا ما نعدم أن نجد من يتوجّه لتأمل هذه العلاقة وملاحظة آراء الرحالة الأوربيّين فيها، فقد كتب الكسندر أداموف، القنصل الروسيّ في البَصرة، في العام 1912م، في الجزء الأول من كتابه "ولاية البَصرة في ماضيها وحاضرها" ما يأتي: "لكي نصل إلى البصرة بوساطة الخورة أو الخندق ينبغي أن نستخدم قنوات جانبيّة تتفرّع منهما إلى العشار وتؤلّف الشبكة، تغطي كلَّ المنطقة التي تشغلها البصرة وضاحيتها، ولقد قدّمت هذه الحقيقة للكثيرين من الرحالة الأوربيين حجة لمقارنة البصرة بالبندقية، رغم أنّ التشابه بين بندقية الغرب وبندقية الشرق لا يتعدى القنوات، وربما أيضًا القوارب الطويلة والمسطحة القطاع، والأبلام التي تُذكّر بالمحفات التي تثبت فيها لحماية الركاب من أشعة الشمس بجندولات البندقيّة بعض الشيء".

قراصنة الشط

إنّ أداموف وهو ينظر إلى العلاقة ويفحص تصورات الرحّالة فيها، يكشف عن سمات أُخر، فمن القنوات إلى ما يعوم فيها من القوارب والأبلام، وقد شكّلت إلى زمن قريب ركنًا من أركان بهجة البصريين، فـ"العشاريات"، الأبلام الرشيقة معقوفة النهايات، كثيرًا ما تهادت على المياه خافقة بمجاذيفها في أزمان المدينة البارقة بمسرات الناس، وربما انساب ظلُّ البلاّم وقد أسلم زورقه لانحدار المياه، والتقى عند نقطة لا مرئيّة من عمر البصرة، نظرة مدام ديولافوا، وقد توحّدت النظرتان عند ظلٍّ خاطف لقرصان يتطلّع لتقلّب الموج ويرصد مزاج الشط قبل أن يدفع بزورقه إلى قلب المياه، في ليلة من ليالي العام 1870 سيرد ذكرها بين سطور أداموف وهو يتحدّث عن الوالي العثماني مدحت باشا، الذي كان حاكم بغداد آنذاك، وهو يشجع بكلِّ الوسائل بناء الدور على ضفّتي النهر وتأجير الأراضي الأميريّة تأجيرًا طويل الأمد بعدما نقل "القوناق"، مقر الدوائر الحكوميّة، إلى منطقة مقام علي المطلّة على النهر، من دون أن يصادف هذا التدبير تعاطفًا كبيرًا من قبل الناس، فالسكنى على شط العرب لم تكن آمنة بسبب القراصنة.

إنّها ورقة أخرى من كتاب النهر تكشف ما يثير البصريّين ويدعوهم إلى العجب، فكيف يمكن لسفر المودّة بين المدينة والنهر أن يحتوي قراصنة، وهو الذي كان يصمت طويلًا بعد كلِّ فيضان، كأنّما ليعتذر عن اختلال مزاجه لكلِّ شرفة، وكلِّ باب، فالنهر الذي تفرّعت من ضفتيه أنهار واسعة وجداول بلغ عدد الكبيرة منها ستمائة وسبعة وثلاثين نهرًا، وبلغ عدد الأنهر الصغيرة المتشعّبة أكثر من مليون ونصف المليون نهرًا متّصلة بعضها ببعض، لا يمكن إلا أن يستعيد مع كلِّ موجةٍ من أمواجه فصلًا من فصول علاقة حافلة، عميقة الوقع، ففي آخر الليل، كما يعبّر القاص محمّد خضيّر في كتابه (بصرياثا)، وهو يرصد حلم المياه: "يهمد النهر ويرسل روحه الحكيمة متجولًا في المدينة، تتقدمه عينه الخضراء اللامعة، لا تعترض عينًا خضراء تتقدّم نحوك في زقاق أو تطرق باب بيتك، أفسح لها في الطريق ودعها تمرّ".

إنّ العين التي تتقدّم، والقلب الذي ينبض، واليد التي تمتد إشارات موحية ما زالت تمسح روح المدينة الآمن قبل أن تخطف خطفتها الأخيرة على سطح الشطّ، لتتوجّه بعدها محملة بصورة المدينة وأماني أبنائها، وحرارة أنفاسهم، إلى مياه الخليج.


Comments


bottom of page