مازلت أعجز عن أن أبرّئ الخيط الأبيض من الخيط الأسود في صور ما أحب في هذا العالم...
أين يسكن الشعر وأين تجري الحكاية في مشهد شمس صباحيّة تغتسل بماء الزمن على جدران المدن العتيقة؟ أين تنتهي القصيدة ومتى تبدأ القصة حين تلمح في هدأة الليل على إحدى الطرق السيارة وردة بيضاء تائهة، مكفّنة بجلال الموت؟ وكيف لي أن أجزّئ الأغنية من الخرافة في خطوات ذلك الحزن الثقيل الصامت كأنه الأبد مساء كل أحد؟ والتفاف المعشوق بعاشقه، أشعرٌ هو أم روايةٌ أم قصيدةٌ بين الشعر والشعر؟ ما هو الإيقاع الآتي وما هو السرد الزماني فيما يصلّ على سمعي كل صباح من رجع نغمات ارتطام الأمواج البعيدة حين كنت صبيّا أهرب من النوم إلى قراءة الماء والرمل؟ النوارس الشتائية المعلّقة على أشواك إحدى الأشجار المتوحشة في واد غير ذي زرع كأنها ثمار فردوسيّة أو كواكب أرضية، أصبحت الآن في ذاكرتي قصّة أضيف إليها كلّ مرّة أكذوبة من الأكاذيب لكنني في كل مرة أشعر أنني أعبر قصيدة بلا ماض. ما أصعب أن أعطي الشعر ما للشعر والرواية ما للرواية كما صعب على المسيح أن يعطي الله ما لله وقيصر ما لقيصر، وكما يصعب على عين الذاكرة أن تفرّق بين التوأم وتأومه، فهل أخطأت!؟.
لعل نشأتي في مدينة ذات بعد دائريّ تتصافح فيها كل المسالك عند وسط مركز يحتضن في وقت واحد ومكان واحد، مسجدا وحماما وسوقا وسجنا، جعلتني لا أحتمل أن تكون مدينة الأدب ذات شوارع طويلة متجاورة، مستقلّ بعضها عن بعض، تقوم مبانيها الشاهقة حدودا لا جواز لها، هي حدود الأجناس الأدبيّة، فنتحدث عن الشعر والرواية والقصة والأقصوصة والمقامة والخبر والرسالة والمسرح كأنها جزر منعزلة مغرقين في تحليل خصائصها النوعية، متغافلين عما بينها من تعالق وتواشج وتراحم تجعل الواحد منها، هو هو حين ينطق بملامحه، وليس هو حين يطير مشوقا إلى نداء الوحدة الأولى، وحدة القول، الفعل، الخلق، الإبداع، إذ تهب اللغة حنان رحمتها للجميع وتلين صرامة الاتجاهات وتؤوب الأعداد إلى واحدها، ويلتمس المكان ما له في الزمان، والكلام ما له في الصمت، والحدث ما له في الذات، والوجوب ما له في الإمكان، ويرى الشعر صورته في القصّ، وتطمئن الرواية إلى مهدها الشعري، فيكون الخروج عن الهويّة النظرية الأجناسيّة تحقيقا للهويّة الإبداعيّة الأولى بأن يقوم النص استعارة ومجازا.
ماذا لو من بعد عشرة، تركتنا "آل" الاستغراقيّة ونفضت يديها عنّا؟ فإلى أيّ لجج عتيّة سترمينا، وفي أي غيابات نكرة ستغرقنا؟ حقّا إنه لأمر شاقّ أن نحذف التعريف من قاموسنا فتغدو أسماؤنا ولا أسماء ونستبدل فخامة "آل القمريّة" وشدة "آل الشمسية" بابتسام التنكير ونغم التنوين، لكنني مع ذلك لا أكاد أجد في ارتباط "آل" التعريف بفنون القول الأدبي إلاّ ما يجده الجغرافي في خط الاستواء الوهمي. فلعلّنا لما يسكننا من خوف الضياع ونسيان العلامات، نحتاج دائما إلى مرايا تؤكد لنا كل صباح أنّ وجوهنا ثابتة لم تتغير، وأدراج نأتمنها أعرافنا ومفاهيمنا. ولكن لو نظرنا في مطلق الكتابة الأدبيّة، ممارسةً وجوديةً تخلق إلى العالم عالما لا يشبهه عالم ينتصر فيه المبدع على غربة الإنسان عن حلمه وتمزّقه اللغويّ بين الخبر والإنشاء، فإننا لن نجد "الشعر" والقصّة" بل سنجد شعرا كثيرا وقصصا كثيرة، فكل كتابة هي نشيد واستعارة وحكاية.
من يستطيع أن يؤكد لنا اليوم أنّ ما عثر عليه علماء الآثار من رسوم لمشهد جنازة في أحد الكهوف المنسيّة واعتبر أقدم مظاهر حضور الفنّ في تاريخ البشرية، لم يكن يصاحبه لحظةَ الإبداع قصيدةٌ تغنّى أو حكايةٌ تروى؟ وإلقاء القصائد عند العرب، في الجاهلية وما يحفّ به من طقوس ونواد، ألا ينبنى على نواة قصصيّة ؟ أليس في لفظة "سوق عكاظ" أو "المعلقات الجاهلية" قصص وقصص؟ وعند الإغريق، ألم يكن المسرح شعرا والشعر مسرحا؟. في أي جنس أدبي يمكن أن نزين " الإلياذة" و"الأوديسا"؟ في الشعر؟ أم في القصة؟ في المسرح؟ أم في الخرافة؟ ولا أعجب ممّن ما زال يتحدث عن الشعر شعرا، والرواية رواية، والقصة قصة، والقصيدة قصيدة، والنثر نثرا، وصفاء الجنس البشريّ نفسه أضحى موضع سؤال، والنسخ مال من نسخ الورق إلى نسخ البشر، ألا تكاد عجائبيّة رواية "المسخ" لفرانز كافكا تغدو واقعيّة؟ أين منها واقعية رواية القرن التاسع عشر العظيمة؟ لكن هل في كلامي تبشير بقتل الأدبيّ أصلا؟ هل فيه إيحاء خفيّ إلى أن تلتهم الرواية أخواتها في جنون الإبداع؟ ليس لي أن أجيب عن هذا السؤال ولا أرى أيّا كان، قادرا على أن يمنح مغامرات الكتابة شهائد للميلاد وشهائد للوفيات. إنّ للكتابة تاريخها الداخلي الخاص المتعالي على تاريخ كتّابها، هو تاريخ مجرّد رمزيّ صامت، لكنه متحرك فاعل متحوّل الوجوه. وفي لحظة ما، في طفرة غامضة ما أجمل غموضها! يعنّ للكتابة أن تسلخ عنها بشرة قديمة لتنبت لها أخرى فيظهر الشعر الحر، والقصيدة النثريّة، والقصة القصيدة، والرواية الشعريّة.
لعلّي لا أجيب ولا أبشّر، ولكن أتساءل: كيف يمكن أن تغدو مغامرات كتّاب كبار كـ"بروست" و"جويس" و"هنري جيمس" و"موزيل" عند من جعلوا رواية القرن التاسع عشر أسوارا كهربائيّة لا تخترق، مجرّد عبث لغويّ يستر عجزا عن حبك الأحداث وبناء الحكاية؟ وكأنّ اللغة ليست هي أمّ الأحداث جميعا، وكأنّ اللغة ليست هي الحدث الأول والأخير، وكأنّ اللغة ليست هي الحدث الوحيد الذي نثق من حدوثه.
إن تداخل "الأجناس الأدبيّة"، بذرة كينونتُها الكتابة نفسها، ولعل الفصل بين الأجناس الأدبيّة هو الطارئ المحدث، فالشعر والقصّ هما في الأصل زوجان ملتحمان التحام الذكر بأنثاه. هذه الوحدة العاشقة هي التي حلم "فلوبير" باستعادتها حين نشد الكتابة المطلقة والأسلوب المطلق، إذ ينتفي الإخبار عن الرواية وتصبح استعارة للحن موسيقي لا يعزف، وقصيدة إيقاعها مجرد لا يمسك، وتندغم الأشياء بأشيائها وتوقن المسمّيات بحدود أسمائها، ولا يدخل الكاتب إلى الرواية من المجتمع إلى الورق، بل من قاع دوّامة الإبداع ولادتُه وخروجُه، فيستحيل الكاتبُ امرأةً وبطلةَ كاتبِ الرواية، وتستحيل البطلةُ هي الكاتب.
ذلك ما حلم به "فلوبير" لكنّ عظمة النموذج البلزاكي وسطوة إغرائه جعلا الحلم يلبث مرفرفا نورسا أسود بين الثلوج، فحلم "فلوبير" وحومانه بين التحقق والإمكان، أشعر هو أم قصة ؟ نعم، إنّ تداخل الشعر بالقص هو الأصل والبدء والطفولة، هو ما فقدنا زمن الرشد حين أضعنا القدرة على مخاطبة الشجر ودعوة السحب ومغازلة الورد، لذلك لم يرتبط لديّ عرس الرواية والشعر بانتماء مدرسيّ ما، وما هو برغبة في ركوب عربة قطار جديد، ولم أفكّر يوما أنّ هذا السبيل في الكتابة سيجعلني تجريبيّا أو حداثيّا، ولا أفعل ذلك لتحشر كتاباتي في خانة ما يسمّى هذه الأيام بالكتابة عبر النوعية.
إنّ تداخل الشعر والرواية لديّ لا أجد له من تفسير إلاّ من صميم عملية الكتابة نفسها، وأكاد لا أستطيع أن أكتب شيئا إلا والبرزخ السحري ينير من حولي ظلمه البهيجة. أفأحتاج إلى أن أعيد صياغة "الكوجيتو الديكارتي" أنا أكتب فإذن أنا أكتب" ؟ ليس تداخل الرواية والشعر خيارا فنيّا واستعارة لتقنيات جديدة في الكتابة ولا حتى إحساسا باستنفاد الرواية التقليديّة إمكانياتها التعبيريّة، وليس تداخل الرواية بالشعر أن يستطرد الروائيّ في نثر بعض القصائد، ووصف آلام الذات في مباشريّة عقيمة، ولا يكفي الروائي أن يسند رأسه إلى كتف القارئ باكيا ولا أن يستدّر إعجابه بوصف مسهب للوحات طبيعيّة، تداخل الرواية بالشعر أبعد من هذه التفاصيل وأعمق، فهو يتصل بالكتابة والحياة، كتابة الحياة والكتابة في الحياة حين تكون الكتابة فعل حرية وانعتاق. انعتاق الإنسان من قيود الواقع الخارجي، حين تكون الكتابة تحريرا للإنسان ممّا في الزمن من خطيّة وممّا في المكان من صلابة، تحريرا للإنسان الكاتب من صورة وجهه لا يريد أن يتغير فتمنحه الكتابة حقّ أن يعبر جنسه البشريّ إلى جنس آخر، بل حقّ أن يعبر جنسه الحيواني إلى جنس حيواني آخر، وتحريرا للإنسان من شرطيّ قاموس اللغة المتداول فيقيم للألفاظ سماوات معاني جديدة نسيها الإنسان، وتحريرا للإنسان من قسوة الثنائيّات ثابتة كانت أو جدليّة، فلا يعود هناك اختلاف بين الحلم والواقع، ولا بين الليل والنهار.
عودة الشعر إلى الرواية وعودة الرواية إلى الشعر هي عودة الكهل الصارم إلى الطفل الأول، يتمدّد على الأرض الرمليّة يناجي السماء، ويغوص بيده إلى أعماق البحر، يلقي إلى السحب المارة بعض فواكه القصص.
ความคิดเห็น