ليست الصحراء مجرد مكان تمارس فيه الطبيعة شحها واستعارة واقعيّة للموت والصمت الهائل، كما درج على أن يكتب الأنثروبولوجيّون الغربيّون الأوائل وكُتَّاب الحقبة الاستعماريّة، وإنما فضاء يمور بتجلّيات الحياة وبجمال الطبيعة، وبثراء ثقافيّ واجتماعيّ أخّاذ منذ فجر البشريّة إلى اليوم، وبالإمكان أن يرى ذلك بجلاء كلُّ من تشبّع بمفرداتها، وتحرّر من أفكاره القبليّة وخلاصاته الجاهزة التي كرستها الدراسات الكولونياليّة. ربما بالإمكان أن يصل المرء إلى خلاصة كهذه وهو يقرأ لأحد المفتونين بالصحراء، ممن رأوا فيها، بعيون الدهشة والاكتشاف والطفولة المعرفيّة، ما لم يره حتى سكان الصحراء أنفسهم. إنّنا نتحدث هنا عن الصحفي والروائيّ الإيطاليّ (ألبرتو مورافيا)، خاصة كتابه الموسوم بـ"رسائل من الصحراء".
إنّ هذا التعمّق في تفاصيل الصحراء وفي ليلها الأزرق؛ سواء أكان صافيًا لا شائبة فيه سوى نجوم تنقط آفاقه الرحبة، أم كان مُضاءً باحتفاليّة بقمر يتبرج دونما تشويش ضوئيّ آخر يسلبه بريقه ولمعانه الطبيعيّ، كفيل بدفع المرء إلى إدراك غير المرئيّ في هذا الفضاء للوهلة الأولى، أو حتى للمعتاد الذين تحولت التفاصيل لديهم إلى بداهات منزوعة الدهشة. لقد كرّس ألبرتو مورافيا طاقاته أديبًا وروائيًّا، وبوصفه ملمًّا كذلك بعلم الاجتماع- وخاصة بالأنثروبولوجيا من وجهة نظر ما بعد كولونياليّة - ليخرج لنا هذا الكتاب البديع في توليفة لا تتنازل عن الصرامة العلميّة والبحثيّة، ولكنها لا تهمل التدفّق الأدبيّ، والنظر إلى الظواهر بالمنظار الطبيعيّ بسينمائيّة لافتة. لقد تعامل مع الصحراء ومع شعوبها وثقافاتها وصراعات إنسانها ضد الطبيعة من أجل قهرها والاستجابة لتحدّياتها من جهة، ولكن من أجل التعايش معها من جهة أخرى، والمحافظة على بكارتها قدر الإمكان.
إن صورة الإنسان الصحراويّ البدائيّة، والذي يحتاج إلى الأوروبيّ المتحضر الذي جاء يحمل رسالته الحضاريّة تكاد تختفي في هذا العمل. إنّه عمل يمجد الإنسان والثقافة في معناهما الأشمل، ويفتح نوافذ أرحب من أجل تنوع ثقافيّ وبشريّ واجتماعيّ أكبر، في سياق المجموع البشريّ بشكل عام، حيث لا تصبح الأكواخ والخيم مجرد مساكن بدائيّة لقوم مغلوبين على أمرهم أمام طغيان الطبيعة، بل إنّها تصبح جزءًا من الاندماج الإنسانيّ الواعي بالبيئة وما تفرضه من إكراهات طقسيّة ومناخيّة، دون الإخلال بنظامها العميق أو أنظمتها على الأصح. فالواحات لا تختلف كثيرًا عن التجمعات في المدن الكوزموبوليتانيّة الكبرى في الغرب من الناحية النظريّة، وبالقدر نفسه فإنّ الزخارف الطينيّة والألوان المعتصرة من أوراق الأشجار والنباتات لا تختلف في هذا السياق عن مخرجات المصانع الكبرى، إلا في كون الأولى صديقة للبيئة ومندمجة فيها، بينما تعدّ الثانية أداة من أدوات تدميرها، بل وجزءًا لا يتجزأ من محاولة السيطرة على باقي الشعوب واستعمارها واستعبادها بشكل مباشر وعسكري في فترة تاريخيّة معينة، ثم عبر إغراق الأسواق بمنتجاتها وشراء خيراتها وخاماتها بأسعار زهيدة؛ لإشباع نهم وحوش المصانع الجائعة باستمرار في فترة تاريخية أخرى، علاوة على خلقها لظروف مناسبة للتبعيّة الاقتصاديّة، والتي لا شك أنّها مدخل أساسيّ ومناسب للتبعيّة السياسيّة والثقافيّة وحتى القيميّة.
إنّ هذا الكتاب، والذي كان في مجمله عبارة عن مجموعة من المذكرات المكتوبة على شكل ملاحظات ومقالات، نُشِرت بادئ الأمر متفرقة ما بين عامي 1975- 1980، لا تكمن قيمته الفكريّة والثقافيّة فقط في كونه شهادة من أحد أهم الكتاب في جيله، وعصارة لجزء من تجربته المهنيّة والمعرفيّة والفلسفيّة، وإنّما أيضًا في كونه يعرّي المقولات المفرخة في العقل الباطن للرجل الأوروبيّ وللكتاب الغربيّين من الأنثروبولوجيّين، الذين تدفقوا إلى العالم الثالث، تمهيدًا لفهم هذه الشعوب أو لوصفها بالدونيّة والبدائيّة على الأصح، من أجل خلق الأطر الفكريّة والمبررات الأخلاقيّة التي تسمح باستعمارها بوصفها الجزء غير المتحضر من الذات الإنسانيّة الأشمل، وكلّ ذلك جاء استجابةً للحاجات الاقتصاديّة للتغيرات العلميّة والصناعيّة الكبرى التي عرفها الجزء الشماليّ من الكرة الأرضيّة، ولعلّ الأجمل في هذا الكتاب هو أنه لا يذكر هذه التعريّة للدراسات الكولونياليّة بشكل مباشر وحاد، بقدر ما يقدم الأفكار والرؤية النظريّة التي تجعل القارئ بشكل مباشر يكتشف ذلك دون الكثير من الرسوليّة أو ادعاء الدحض بشكل مدرسيّ مكشوف، وقد اعتمد الكاتب (ألبرتو مورافيا) في هذا الكتاب التقنية الوصفيّة بأسلوبه الشيّق، متجرّدًا تقريبًا من السير في طريق مرسومة سلفًا، أو إثبات صحّة نظريّات ومواقف سابقة على المادة المدروسة نفسها، واصفًا البشر أمامه كما تكشفوا له، مصورًا أغانيهم وأفراحهم وأحزانهم وعاداتهم، دون إهمال التفاصيل الجغرافيّة والحياة البيئيّة من حيوانات،وطيور، وجبال، ووهاد، ومرتفعات، وواحات، ونباتات، وأشجار، مقدّمًا بذلك مادة حاول أن تكون كما هي في الطبيعة، مغامِرًا من وقت إلى آخر بتشبيهات ومقارنات بينها وبين بيئات أوروبية أخرى لا تتغيا مركزتها بالضرورة، وإنّما تدخل في باب التأكيد على تعدد الخيارات وثراء العالم والمجتمع البشريّ، ومحاولًا في الآن ذاته أن ينقل للإنسان الأوروبي بعض النماذج التي تشكل المعادل الموضوعيّ للنماذج التي يعرفها في محيطه. ومن هنا كانت بعض المرتفعات والهضاب في الصحراء تُذَكِّره بجبال الألب، وكانت الأدغال ومساحات السافانا الشاسعة والمستنقعات تستدعي لديه ذهنيًا مشاهد المروج والبحيرات وأشجار وغابات السنديان في غرب أوروبا، بالإضافة إلى إبراز الحياة الثقافيّة المعاصرة لهذه الشعوب المتنوعة التي تحتضنها الصحراء الشاسعة، عبر ذكر نماذج من الكُتَّاب والمثقفين الذين أفاد منهم الكُتَّاب الغربيّون، وأثروا في مسارات الكتابة وفي مناهجها وفي طرق التفكير لدى نخب العالم بشكل عام، ناهيك عن الثراء الثقافيّ واللغويّ والبشريّ للشعوب التي تستوطن هذا الفضاء، من: عرب، وأمازيغ، وشعوب اللوبي، والكيكويو، والبوشمن الأفريقيّة، وغيرهم.
إنّ تجربة (ألبرتو مورافيا) في كتاب "رسائل الصحراء" في تقديري قد شكَّلَت مرتكزًا للقاء بين الغرب والعالم الثالث، وقد أثرت في كتّاب وباحثين بعده، وفتحت نافذة جديدة في علاقة الشعوب والثقافات ببعضها، علاقة أفقيّة يطبعها طابع الأخذ والعطاء، التأثر والتأثير، وليست علاقة عموديّة بين متَلَقٍ مُنصاع، وبين مانح يعتبر نفسه المركز والمالك النهائي للحقائق والثقافة والقيم.
في الختام..
بوسعنا إذن أن نقول: إنّ كتاب "رسائل الصحراء" يشكّل نظرة واقعيّة وموضوعيّة إلى حدّ ما، قد تشكّل بدورها جزءًامن الحوار الذي يجب أن يستمر بين مختلف الثقافات الإنسانيّة، والذي لا يقوم البتة على ثنائيّة المركزيّة الصلبة والأطراف الرخوة.
Comments