لمن يتدفق سحاب الأغاني في بلاد بلا شعراء؟ هم الأمراء والأنبياء في وجه قبح العالم وتبلده، من يصقلون الروح بشفافيّة معجزة كالكتابة، هم أبناء هذه الأرض، يحلقون في أرجائها كالعصافير الحالمة إلى عشبة الإبداع الأبدي.. تجربة شعريّة، صحفيّة ونقديّة من الجنوب اللبنانيّ، قلاعها عالية شامخة، وبصيرتها حكيمة نبيلة، حملت عبء الكلمة ونشيج مخاض الحريّة والإبداع، سهرت تحرس أوطان العذوبة ومنابع الشغف الأسطوريّ. عاد بنا إلى براري الطفولة القريبة، وإلى الريف الحنون، أدخلنا إلى حديقته السرية للكتابة، وإلى عشقه للأنوثة الكونيّة وخصوبتها. شوقي بزيع، أتى إلى هذا العالم وأهداه الكثير من الجمال الذي صنعته يدّ الدهشة، قطف غاديًا مياسم نبيذ المعنى الذي تفصح عنه (فراشات لابتسامة بوذا)، و(فراديس الوحشة) و(قمصان يوسف) وغيرها الكثير من الدواوين الشعريّة، والتي توّجت بعدد من الجوائز المهمة في الساحة الثقافيّة العربيّة، ومنها: وسام فلسطين، وسام كمال جنبلاط، جائزة محمد صالح باشرحبيل للشعر العربيّ، جائزة شاعر عكاظ، وجائزة العويس الثقافيّة. له العديد من المؤلفات النقديّة والفكريّة الأخرى، آخرها مسارات النقد الحديث. عمل في الصحافة رئيسًا للقسم الثقافيّ في جريدة السفير اللبنانيّة، وكتب في العديد من الصحف اللبنانيّة والعربيّة، من بينها: الرياض السعوديّة، الاتحاد الظبيانيّة، النهار اللبنانيّة، الراية القطريّة، البيان الإماراتيّة وغيرها.. شارك في عشرات المهرجانات والمؤتمرات الشعريّة والأدبيّة العربيّة والغربيّة. ترجمت قصائده إلى لغات عدة، من بينها: الإنجليزيّة، الفرنسيّة، الألمانيّة، الإسبانيّة، الفارسيّة، واليونانيّة. صدرت حول شعره مؤلفات عدّة، من بينها كتاب للمصريّ كامل الصاوي بعنوان (الواقع المتصدع في شعر شوقي بزيع)، وللسوريّ عصام شرتح بعنوان (شعر شوقي بزيع بين جماليّات المعنى وتقنيات التعبير)، وكتاب للبنانيّ سعد كموني بعنوان (إغواء التأويل)، بالإضافة إلى العديد من الأطروحات الجامعيّة في لبنان والدول العربيّة. غنى بعض قصائده كلّ من: مرسيل خليفة، وسميح شقير، ونداء أبو مراد، وعبد الكريم الشعار.
* العلاقة بين الشعر والنقد، هل نلمس في واقعنا الشعريّ والثقافيّ اليوم ما يمكن أن نقول عنه إنّه ناتج عن علاقة سويّة هادفة مكتملة الأركان والعناصر؟
ليس بالضرورة أن يكون نقد الشعر على سويّة واحدة مع الشعر نفسه، أو نقد الفنّ على سويّة واحدة مع الفن؛ لأنّ الشعر والفنون ـ بدرجة عالية ـ تعتمد على الموهبة والفطرة والسليقة، فيما يحتاج النقد إلى عمليّة فكريّة معقدة، وإلى تطوّر على مستوى الأساليب والأدوات والمناهج النقديّة، وإذا كان الشعر العربي متطوّرًا بحيث إنّه يقف على قدم المساواة مع الشعر العالميّ، كما يرى العديد من نقاد الشعر والشعراء أيضًا، فإنّ النقد بخلاف ذلك، لا يسير على الوتيرة نفسها، خاصة وأنّنا لا نملك الأدوات النقديّة التي تواكب القصيدة الحديثة. ومنذ زمن الجورجاني والآمدي والنقاد العرب القدماء، ليس لدينا تطور في النقد الأدبيّ، أو ليس لدينا نظريّة نقديّة جديدة، والنقد الذي نعتمده مأخوذ بوجه عام عن مدارس النقد الغربيّة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، الشعراء الرواد تمت مواكبتهم بنقاد رواد عملوا على تحليل تجاربهم وقراءتها بوعي، وصدرت مؤلفات كثيرة في النقد الأدبيّ، عالية المستوى، لدينا نقاد مهمون في هذا الصدد من أمثال محمد مندور، عز الدين إسماعيل، غالي شكري، رجاء النقاش، وإحسان عباس، وعشرات النقاد لو أردتِ أن أعدّدهم، في حين أن النقاد المتأخرين، ذهبوا أيضًا إلى قصيدة الرواد، لأنّها أسهل عليهم، ولأنّها مطروقة من قبل، وهناك أسباب أخرى غير هذي. بمعنى أنّهم أرادوا أن يحقّقوا نجوميّتهم بالتوازي مع نجوميّة الرواد أنفسهم، فالأجيال اللاحقة لم تتابع بشكل نقديّ كما ينبغي أن تتابع، فمنذ حقبة الستينات، لا أرى بأنّ جيل السبعينيّات الذي أنتمي أنا ـ على المستوى الشخصيّ ـ إليه، والأجيال التي تلت، قد تمّت مواكبتها بشكل نقديّ موضوعيّ وعميق، وهذا بالطبع لا ينفي بأنّ تجاربنا قد تمّ تناولها من قبل العديد من النقاد، ولكنّ أكثر هذا التناول جرى على المستوى الأكاديميّ والجامعيّ، حيث كتبت العديد من الأطروحات الجامعيّة في قسميها: الدكتوراه والماجستير، ولكن هذا لا يكفي على الإطلاق.
* ما هو أثر الاختلاف حول معنى ومفهوم الحداثة على القصيدة العربيّة والغربيّة؟
هذا السؤال يحتاج إلى مؤلف كامل للحديث عنه؛ لأنّ الحداثة تمّت قراءتها بمستويات مختلفة، والنظر إليها كان من زوايا كثيرة، ذلك لأنه ليس هناك حداثة واحدة بل هناك حداثات، وهذا ما تناولْتُه في كتابي ما قبل الأخير (مسارات الحداثة)، فهناك: حداثة فكريّة، حداثة فلسفيّة، تكنولوجيّة، اقتصاديّة واجتماعيّة، وهناك الحداثة بمعناها الشعريّ والإبداعيّ الذي بدأت ملامحه في الغرب على يد (بودلير) في أربعينيّات القرن التاسع عشر كما يجمع الكثير من النقاد، في العالم العربيّ جاءت الحداثة متأخرة ومتأثرة بالحداثة الغربيّة على يد الرواد، من أمثال السياب، نازك الملائكة، البياتي، الحيدري، عبد الصبور، وأدونيس، وعشرات غيرهم، ومع ذلك أريد أن أقول: إن تعدد تعريفات الحداثة لا يضيرها في شيء، بل يغنيها؛ لأنّه يخلق مساحة من التفاعل الخلّاق بين الآراء المتعدّدة، تنعكس بشكل إيجابيّ على الشعريّة العربيّة والعالميّة على نحو عام، وأستطيع القول بأنّ الحداثة ليست هدفًا بحدّ ذاته، وليست ديانة جديدة، ولكنّها حضور في الزمن، يتجاوز اللحظة الراهنة ليعانق الأبديّة، وبالتالي، هي بحث عن أفق متحرك ومغاير تمامًا وغير قابل للاستنقاع والتأسُّن، وبهذا المعنى يمكن أن نرى شعرًا حداثيًّا في الجاهليّة على يد امرئ القيس وطرفة بن العبد، أو في تجارب عمر بن أبي ربيعة والعذريّين في العصر الأمويّ، أو في التجارب اللاحقة لأبي تمام وأبي نواس والمتنبي، أكثر مما نرى على يد شعراء معاصرين لم يقدموا أيّ إضافة إلى الشعريّة العربيّة في كلّ حال، هذا الموضوع ملتبس وشائك، ولكنّني أؤمن بأنّه يمكن أن تقوم حداثة شعريّة أو إبداعيّة في مجتمع غير حديث تمامًا، وهذا ما تؤكّده تجارب أمريكا اللاتينيّة، وبعض دول إفريقيا وآسيا؛ لأنّ الإبداع لا يكون بأوامر من العقل، ولكنّه يعتمد على العودة إلى براءة الأشياء، براءة اللغة والصورة والإيقاع، وهذا يذهب بشكل عكسيّ إذا شئنا مع التكنولوجيا، وليس بشكل طرديّ.
* كيف تنظر إلى أثر الشعر العربّي وتطوّر القصيدة العربيّة عبر العصور المختلفة على الشعر في الحضارات المتاخمة للثقافة العربيّة وغيرها؟
بطبيعة الحال، أي حضارة أو ثقافة لا تتفاعل مع الثقافات المحيطة بها، ليس لها أيّ حظّ من التطور والنماء، ومن يعود إلى الحضارة العربيّة، يكتشف بأنّ هذه الحضارة بلغت ذروتها القصوى مع تطور حركة الترجمة في العصر العباسيّ، وبخاصّة في زمن المأمون، وأستطيع القول: بأنّ الشّعر العربيّ لم يكن له أن يبلغ ما بلغه لو لم يتفاعل مع محيطه الخارجيّ ومع الثقافات التي انخرطت في إطار الدولة العربيّة الإسلاميّة في الحقبتين - الأمويّة والعباسيّة - ولذلك نرى عددًا من الشعراء الكبار غير عرب، مثل: أبي نواس وابن الرومي، وغيرهما من الشعراء المعروفين، ومع ذلك فهذا الشعر تأثّر بغيره من الثقافات وأثّر في محيطه ولو بنسبة أقلّ، حيث لا نرى تأثيرات للشعر العربيّ في الحضارات الأخرى، ربما يصحّ ذلك على بلاد فارس، لأنّ التصاق الحضارة الفارسيّة والعربيّة جعل التفاعل متبادلًا بين العرب والفرس، وهذا الشيء يصح على الأندلس، حيث كان هناك تفاعل متبادل بين حضارتين مختلفتين. وربّما المسألة تنطبق على الفكر والفلسفة أكثر مما تنطبق على الشعر، حيث استطاع فلاسفة كبار مثل ابن رشد، أو علماء اجتماع مثل ابن خلدون، أن يؤثروا بشكل أساسيّ على الحضارة الغربيّة وأن ينقلوا الفلسفة اليونانيّة إلى العالم الغربي. أما في العصر الحديث للأسف الشعر الحديث العربيّ يبدو منفعلًا بالخارج أكثر مما هو فاعل به.
* في المشهد الشعريّ الراهن ظهرت أسماء كثيرة لشباب من قلب إفريقيا، نالوا جوائز شعريّة وأدبيّة كبيرة، كيف تقرأ تشرُّبَ إفريقيا بهذه اللغة؟ وما هو الأفق الأبعد لهذا التزاوج الفكريّ والحضاريّ؟
لا أرى هناك أثرًا واسعًا للّغة العربيّة في إفريقيا، فيما يخصّ الجوائز التي نالها شعراء من السنغال أو الصومال وإريتريا، هذا الشيء لا يعوّل عليه؛ لأنّ هذه الجوائز تشجيعيّة لحدّ كبير للاستمرار في الكتابة باللغة العربيّة، وطبيعة هذه الجوائز التي تشجّع القصيدة العربيّة العموديّة أو الكلاسيكيّة ليست معيارًا لأهميّة الشعر، أو لما وصل إليه في عهوده الأخيرة، فأنا لا أرى في هذا الصّدد ما يمكن أن يستدلّ به على تطوّر اللغة العربيّة في إفريقيا أو على اتساع رقعتها في تلك المنطقة من العالم.
* وأنت الشاعر، الصحفيّ، والناقد، ملكت مفاتيح السرد الذي يشدّ أذن القارئ بلطف، ويسرق الانتباه بعناية المعرفة والدرايّة بأسرار المفردات وموسيقاها، هذه العبقريّة الموهوبة والتي وجدت صقلًا كثيفًا بالتجربة والاطلاع، لماذا لم تجد طريقًا للرواية العربيّة؟
أشكرك على هذا التقدير العالي لتجربتي النقديّة والصحفيّة المديدة والتي أبديت فيها اهتمامًا ملحوظًا بالروايات وبلغة السرد، وتجلّت العلاقة وذلك الاهتمام من خلال تكليفي برئاسة لجنة تحكيم جائزة البوكر للرواية العربيّة قبل عامين، لكن علينا أن نفرّق هنا بين شغفي بقراءة الرواية وممارستي للنقد الروائي، وبين كتابتي للرواية، في الواقع ـ غالبًا ـ ما يفاتحني الكثيرون بمسألة كتابة الرواية، لأنّهم يرون في مقالاتي النقديّة والأدبيّة بوجه عام بنية سرديّة وقماشة أوليّة لعمل روائي، لكن بالواقع لا أراني أمتلك هذه القدرة على كتابة رواية تليق بتجربتي المديدة بعد كلّ هذه العقود من مزاولة الأدب، وإذا كان لي أن أكتب عملًا سرديًّا، فيمكن أن أكتب سيرتي الشخصيّة، وأعتقد بأنّ الشاعر بوجه عام يمكن أن ينجح في كتابة سيرته؛ لأنّه لا يستطيع مغادرة نفسه وتمحوره حول ذاته الخاصة من دون أن يعني ذلك افتئاتًا على الشعراء واتهامًا لهم بالنرجسيّة الفاقعة، ولكن لا بدّ من أن يمتلك الشاعر قدرًا من الأنا العالية لكي يستطيع أن يعطي، والرواية تحتاج لمغادرة هذه الأنا لتتوزع في أنوات الآخرين، وهذا ما لا يملك أن يفعله الكثير من الشعراء، من جهة ثانية، أعتقد بأن الحياة أقصر من أن توزع على نوعين أدبيّين، بخطورة الرواية والشعر، بل إنّنا نحتاج إلى أعمار كثيرة كالعمر الذي نعطاه في حياة واحدة، كي نذهب بالشعر إلى مسالك وآفاق مغايرة لما هو عليه، لا أعتقد بأنّ الشاعر الحقيقي يمكن أن يكتب رواية موازية لشعره، يمكن للإنسان أن يكون شاعرًا كبيرًا وروائيًا عاديًا، يمكن أن يكون روائيًا كبيرًا وشاعرًا عاديًا، أما أن يكون شاعرًا كبيرًا وروائيًا كبيرًا، فهذا ما أشكّ بحدوثه، وأنا أعرف حدودي تمامًا، لذا أتردد كثيرًا في القيام بهذه المغامرة.
* متى تصل الكتابة إلى أوج عنفوانها الآسر وجبروتها الرقيق؟
أعتقد بأنّ لحظات الكتابة الملائمة هي التي تتمّ في حالات خاصة ونادرة واستثنائيّة، وهي لحظات الإلهام التي يجب أن نقطفها في أوانها، وليس علينا أن نستبق القصيدة فنقطفها كالثمار الفجة قبل أوانها، وليس علينا أن نتأخر كثيرًا في كتابتها، فتذبل وتترهل، ومن هنا، فإنّ على الشاعر أن يكمن للحظة الإلهام تلك، كما هو حال ليلة القدر عند المسلمين، أو ليلة الغطاس عند المسيحيّين، وأن يكون جاهزًا لتلقّفها حين تأتي، وهذه اللحظة هي لحظة الإلهام القصوى التي تتحدّثين عنها، وهي قلّ أن تأتي، ولكنّها حينما تأتي تعطي أجمل الروائع على مستويات الشعر، والرواية، والموسيقى، والرسم، وسوى ذلك من الفنون.
* الكثير من الشعراء يتبرَّمون من هذه الهبّة السماويّة اللطيفة - الشعر- ويرونه عائقًا ورفاهيّة لا وقت لها، من خلال مسيرتك الأدبيّة قدّمت للشعر الكثير على مدى طويل، فهل ندمت؟
لم أندم بالتأكيد على اقترافي لهذا الذنب الجميل الذي يسمى الشعر، وبرغم كلّ عذابات الشعر ومكابداته، وكلّ ما يحتاجه من تبتّل وتنسّك وانقطاع زمنيّ عن كلّ ما عداه، أشعر بأنّني لا أصلح لأن أمتهن أي (مهنة أخرى) أو أقدّم شيئًا خارج الشعر، وأعتقد بأنّ الشعر ساعدني كثيرًا وسط هذه الدوامة من الحروب التي عشناها في لبنان، والمآزق والانهيارات المتتالية في أن أستعيد توازني، في أن أتصالح مع نفسي، ومن دون الشعر لست متأكدًا مما إذا كنت قادرًا على الصمود، أو إذا كنت بعد على قيد الحياة. في الحقيقة إن الشعر ليس مجرد هواية لتزجية الوقت، ولكنّه مشروع حياة بكاملها، وهو في الوقت ذاته طريقة في الردّ على مكائد العالم، وعلى قسوته، وعلى قسوة الشيخوخة، وعلى النقص في الحبّ، وعلى فكرة الموت، وبهذا المعنى أنا أتعالج بالشعر.
* الجوائز الأدبيّة، هل لها سلطة أكبر من ذائقة الجمهور؟
ليست المسألة مسألة سلطة الجوائز، تُقدّم الجوائز - في العادة - لتكون بمثابة تحية للشاعر على جهوده المضنية، بمثابة شد على اليد، بمثابة إشعار له بأنّه غير متروك في هذا العالم الجاف والبارد والقاسي، ولذلك هي لا تمنحه سلطة على أي شيء، لا بل قد تكون مفسدة للتجربة في بعض الأحيان، حيث إنّ الشعراء الذين يسكرون بما حصلوا عليه من جوائز، يكفّون عن الكتابة بعد تلك المكافأة، ويثملون كما قلت بما منحوه من تكريم، والمبدعون الكبار وحدهم هم الذين يمتلكون المناعة لتجاوز هذا الثمل، والذين يشعرون بمزيد من المسؤوليّة، ويذهبون في تجاربهم أكثر فأكثر نحو العمق والحفر الداخلي، كما أنّ سلطة الجمهور هي سلطة خلبيّة، والجوائز التي تمنح بناءً على تفوق هذا الشاعر في المكالمات الهاتفيّة، أو في تأييد جمهور الإنترنت وما سوى ذلك، هي ليست المعيار في الحكم الحقيقيّ والأخير والنهائيّ على الشعراء، للأسف على الرغم من أهميّة بعض الجوائز التي تمنح للشعراء، وخاصة العرب منهم، فإنّ على الممنوحين أن يبذلوا جهودًا كبيرة؛ لكي لا يقعوا في أسر الإغراءات الماليّة والمعنويّة التي تقدّم لهم، ذلك لأنّ الجمهور ليس الحكم الصالح على الشعر، الذي يحكم على الشعر هم النقاد والدارسون والنخب، وإلا كيف يمكننا أن نضع الذهب بين يدي شخص غير مختص وليس (جوهرجيًا)، ونثق بحكمه؟ فإذا كنّا نعطي الذهب للجوهرجيّ، وإذا كنا نضع غرفة النوم في يد النجار، وإذا كنا نضع رؤوسنا في عهدة الحلاقين أو شعرنا، فعلى الأقل ينبغي أن نضع الشعر كذلك في عهدة الجديرين بالحكم عليه.
*من أين تبدأ ذاكرة الشعر لدى شوقي بزيع؟
من الطبيعي أن تبدأ ذاكرة الشعر من الطفولة، ومن أقصى مكان في تلك الطفولة، ذلك لأنّ الطفولة هي الينبوع الأكثر ثراءً، الذي يرفدنا بأسباب التخييل والفطرة الأولى، ويخصّب الشعر بما يلزمه من براءة ومن هذيان ومن تغيير لقواعد اللعبة التي يقدّمها لنا العقل، الطفولة هي زمن ما قبل العقل، ولذلك نرى الطفل يعبث باللغة ويستخدمها في إطار خلاق وخلاب وبشكل غير متوقع، ويعبث أيضًا بعناصر الوجود نفسه، ومن هنا، فلا شعر غنيَّ من دون طفولة غنيّة، كما يقول الفيلسوف الفرنسي المعروف (غاستون باشلار). وأزعم بأنّ طفولتي في الريف اللبنانيّ الجنوبيّ بغنى مسرحها وبيئتها وعوالمها هي التي رفدتني بكلّ ما أعطيته من شاعريّة.
* ما الذي أهدتك إياه بيروت والمرأة؟
هذا العالم مليء بالهدايا, والشعر هديتنا الأجمل والأروع، وأعتقد بأنّه لا كتابة بلا حب، وإذا كان الحبُّ مفهومًا إنسانيًّا شاملًا، فالعلاقة مع المرأة تشكّل متن هذا الحب وقوامه وجوهره، وأنا من الذين تفاعلوا إلى حدّ بعيد مع الأنوثة الكونيّة، سواءً بوصفها مفهومًا مطلقًا يتعلّق بليونة الحياة، بنضارتها، بطراوتها، ببعدها الجمالي، بعطائها المتجدد، بخصوبتها وعلاقتها بالأرض الأم، أو من خلال العشق الذي طالما هزّني من الجذور، وطالما انعكس في قصائدي بشكل متواصل، وهذا ما يفسّر تأخري في الزواج إلى ما بعد الخمسين، أعتقد بأنّ الأنوثة الأبديّة تجرّنا وراءها كما يقول (غوته) -الشاعر الألماني الشهير- وبأنّ كلّ ما لا يؤنث لا يعول عليه كما يقول محي الدين بن عربي، أما بالنسبة لبيروت: فشعري أنا ريفي، دائمًا كان يستلهم من مواقع بريّة، من فضاءات واسعة ذات صلة بمنشئي في الجنوب اللبناني، ولسوء الحظ، لم تلهمني بيروت سوى مقطوعات قليلة جدًّا، ولكن هذا لا يعني أبدًا أنّني غير مفتون بهذه المدينة التي أعيش فيها منذ أكثر من أربعة عقود، ولم يكن شعري ليصبح مصقولًا وليبلغ ما بلغه في تفاعله مع محيطه، أو مع القضايا الوطنيّة والقوميّة والإنسانيّة لو لم أجد في هذه المدينة الحاضنة الملائمة، أو المنصة التي أطلقتني أبعد من حدود المكان الجنوبيّ والجغرافيّ، وربما لهذا السبب، وتعويضًا عن شعور ما بالتقصير، عملت على وضع أنطولوجيا غنيّة تحت عنوان (بيروت في قصائد الشعراء)، حين كانت بيروت عاصمة عالميّة للكتاب، ولم أكتف باختيار عشرات القصائد التي كتبت عن المدينة منذ العهود الفينيقيّة وحتى اليوم بمختلف اللغات، ولكنني عملت أيضًا على كتابة مقدمة غنيّة للكتاب، تتجاوز الثمانين صفحة، وتتناول تاريخ المدينة وعلاقتها بالإبداع وبالثقافة والمثقفين.
*(إن العذاب هو المصدر الوحيد للإدراك) دوستويفسكي أي قصائدك أبكتك؟ السؤال عن القصائد التي أبكتني سؤال مؤثر وذكي، وجاء في مكانه تمامًا، وهو ينمّ عن خبرة بالفنّ وبالكتابة، اللذَين يبعثان أحيانًا على البكاء حين نكتب، أو حين نقدم على أيّ عمل فنّي في لحظة الوجد العاتية، وهذا ما حدث بالفعل معي، وغير مرة من المرات، وأكثر القصائد التي أبكتني هي قصائد الرثاء، عندما فقدت العديد من الأحبة والأصدقاء، أو حينما رثيت شهداء قدموا أرواحهم على مذبح المقاومة وتحرير الأرض، والدفاع عن مسقط الرأس وعن الوطن بأسره. هناك قصائد أبكتني مثل قصيدة "العائد" المكتوبة في الثمانينيّات، والتي رثيت فيها الشهيد علي بزيع، الذي قتله الإسرائيليّون على شاطئ (صور)، حينما كان واقفًا على شاطئ البحر بانتظار أن يشتري سكة لحراثة الأرض من أحد المحلات، الذي كان ما يزال مقفلًا في الصباح الباكر. قصيدة "الصوت" أيضًا، وقصيدة "مرثيّة الغبار" وهي التي حازت لاحقًا على جائزة عكاظ للشعر العربي، وهي عبارة عن حوار شجي بيني وبين الطفل الذي كنته، بعد أن بلغت الأربعين من العمر، حيث كان كلّ واحد منا ينادي على الآخر من مكان بعيد، ويقول له بعد انتهاء الحرب الأهليّة: أين أنت؟ وما الذي فعلته بي؟ وأين هي الأحلام التي وعدتني بتحقيقها؟ هناك العديد من القصائد الأخرى التي يصعب أن أعددها الآن.
*لمن تهدي قصيدتك الأخيرة؟
إنّني أهديت قصائد إلى جميع من أحبّهم تقريبًا، من الموتى والأحياء، أهديت قصائد إلى أبي، وإلى أمي، وإلى أشقائي وشقيقاتي، قصائد إلى الأرض، إلى النساء اللواتي أحببت، إلى المنفى والغربة، حاورت الكثير من الشخصيّات التراثيّة التي رأيت فيها تصاديًا مع أعماقي الداخليّة ومع أسئلتي الوجوديّة المقلقة، أهديت قصائد إلى زوجتي رنيم ضاهر، وهي شاعرة معروفة، وإلى ابنتيَّ حنين ولَمَا، وأهديت قصيدة إلى الشعر، وهي عبارة عن سؤال وصرخة من القلب بعنوان (إلى أين تأخذني أيها الشعر؟)، لذلك إذا كان لا بد لي أن أهدي قصيدة أخيرة، ستكون على شكل عاطفة قلبيّة، أهديها إلى ابنتيَّ حنين ولما، اللتين أتوسم فيهما استمراري وامتدادي في الزمان والمكان، واللتين أعهد إليهما بأعمالي التي لم يتح لي أن أنشرها، وبالحفاظ على هذا الإرث الذي تركته مهما كان متواضعًا، وليس عليّ أن أهديهما قصيدتي الأخيرة؛ لأنّهما قصيدتاي الأجمل.
Comments