top of page

النيل وسان لوران.. هبة مصر وكندا

تاريخ التحديث: ٦ ديسمبر ٢٠٢٣


وليد الخشاب

يلعب النهر دورًا توحيديًّا، يربط بين مفاصل الإقليم، ويحمل الخير للسكان، ويشكل أيقونة ثقافيّة، وعلامة للهُويّة. نهر النيل أطول نهر في العالم، ينافسه في اللقب نهر المسيسيبي الأمريكي، وإن اختلفت أساليب قياس الطول، لتتحيز مرّة إلى النهر الأمريكيّ، أو لتقرّ بأنّ النيل بالفعل أطول نهر على وجه الأرض. وسان لوران واحد من أعرض أنهار العالم وأعفاها، حتى إن الأمواج فيه تشبه أمواج البحر. وفي البلدين احتفاء بمركزيّة النهر ورمزيّته، لكن مركزيّة النيل في مصر حرفيّة؛ لأنّ النهر يشقّ البلاد -من أقصاها إلى أدناها- إلى نصفين: شرق النهر وغربه. أما سان لوران، فهو يحدّ كندا شرقًا ولا يمتدّ لا بطول البلاد ولا عرضها.




إن كانت مصر هبة نهر النيل، كما يقول المؤرخ الإغريقي هيرودوت، فكندا هبة نهر السان لوران. قُدِّرَ لي أن أزور أكثر من بلد أوروبيّ، بين سن العاشرة وسن العشرين. وفي كلّ مدينة أوروبيّة زرتها، تجولت على شطوط أنهارها، فرأيت رأي العين ما كان معلمو الجغرافيا يرددونه علينا في المدرسة بمصر: الأوروبيّون ينبهرون بنهر النيل؛ لأنّه عريض جدًّا ثم إنّه أطول نهر في العالم. فعلًا تبدو الأنهار الأوروبيّة مثل سحالٍ صغيرة، بينما النيل يبدو جوارها مثل أفعى عظيمة. كانت مدرستي فرنسيّة، فكنا نقرأ منذ سنواتنا الأولى عن باريس وجمال نهر السين الذي يشقّها فيقسمها إلى ضفة يمنى للأثرياء، ويسرى أكثر شعبية ـ وإن اختلف الأمر منذ عدة عقود، وصارت ضفتا النهر مرغوبتين من ميسوري الحال. ولما رأيت نهر السين في أول زيارة إلى باريس، وعمري اثنا عشر عامًا، وجدته أضيق من ترعة قريتنا بالصعيد.

خيط يربط البلاد

وعندما وصلت إلى كندا وقد تجاوزت الثلاثين، سرعان ما أخذني مضيفيّ في رحلة إلى مدينة كيبيك، وخرجنا يومًا في رحلة نهريّة على ظهر مركب يشق نهر السان لوران. كان المرشد الذي يرافقنا قد شرح لنا أن السان لوران هو النهر الذي دخل منه بعض أشهر المستكشفين الفرنسيّين -وأولهم جاك كارتييه في القرن السادس عشر- إلى إقليم كندا، قادمين من أوروبا عبر المحيط الأطلسي. بل إنَّ كارتييه يُعْتَبر من أول من أطلق اسم كندا على تلك البلاد التي "اكتشفها". قال مرشدنا إنَّ مركبنا لو واصل سيره لبعض الوقت لوصلنا إلى نقطة التقاء النهر بالمحيط عند خليج السان لوران. بعد فترة، وجدت في الأفق أمواجًا هائلة تبعث رهبة عظيمة في القلوب، وقلت لنفسي: ها قد وصلنا إلى المحيط. فإذا بها فقط الضفة الأخرى من نهر السان لوران، وقد تكسّرت عليها أمواج النهر ناشرة مساحات هائلة من الريم الأبيض والرذاذ. كانت المرّة الأولى في حياتي التي أدرك فيها أن النيل قد يكون نهرًا عظيمًا، لكن السان لوران نهر شاب عفيّ، جموح يفوقه عرضًا وحيويّة، وإن لم يبلغ طولًا يقارب طول نهر النّيل.

في مصر كما في كندا، يلعب النهر دورًا توحيديًّا يربط بين مفاصل الإقليم، ويحمل الخير للسكان، ويشكِّل أيقونة ثقافيّة، وعلامة للهويّة. نهر النيل أطول نهر في العالم، ينافسه في اللقب نهر المسيسيبي الأمريكيّ، وإن اختلفت أساليب قياس الطول لتتحيّز مرة إلى النهر الأمريكيّ، أو لتقرّ بأنّ النيل بالفعل أطول نهر على وجه الأرض. وسان لوران واحد من أعرض أنهار العالم وأعفاها، حتى إنّ الأمواج فيه تشبه أمواج البحر. وفي البلدين احتفاء بمركزيّة النهر ورمزيّته، لكنّ مركزيّة النيل في مصر حرفيّة؛ لأنّ النهر يشق البلاد -من أقصاها إلى أدناها- إلى نصفين، عن شرق النهر وغربه. أما سان لوران فهو نهر يحدّ كندا شرقًا، ولا يمتدّ لا بطول البلاد ولا عرضها، إنّما يمتدّ بطول المقاطعة ذات الغالبية الناطقة بالفرنسيّة: كيبيك. النيل يبدو وكأنّه خيط يلحم شرق مصر وغربها معًا، بينما سان لوران يلحم شمال مقاطعة كيبيك بجنوبها، ويطرز شرق كندا كحلية سوار كم قميصها الأيمن. ولهذا فالنّهر الكنديّ له مكانة عند سكان شرق كندا عمومًا، وله مكانة شديدة الخصوصيّة عند سكان مقاطعة كيبيك الكنديّة، الناطقة بالفرنسيّة والتي تتمتع بوضع متميّز في إطار الدولة الفيدراليّة الكنديّة ذات الأغلبيّة الناطقة بالإنجليزيّة.

النهر الزراعي والنهر الحداثي

في لحظة ما من تاريخ دولة التحرّر الوطنيّ، في الستيّنات من القرن الماضي تحديدًا، لم يعد النيل مجرد نهر يجري ماؤه فيسقي الأراضي الزراعيّة، ويصبح معادلًا للدماء تضخ الحياة في الجسد، وكأنّه العصارة السحريّة التي تُذهّب القمح، وتبيّض القطن، وتملأ القصب بالعصير المسكر. مع بدء إنشاء السد العالي في أسوان، أصبح النيل أيضًا شريكًا في مشروع التصنيع؛ لأنّه صار مصدر الطاقة التي سوف ينظمها السد لتوليد الكهرباء. أصبح النيل مصدرًا شبه حرفي للنور، بفضل دوره في تشغيل مولدات الكهرباء بالسد العالي، ودور السد العالي في توفير الكهرباء لشبكات التيار الكهربيّ بالبلاد. صار النيل أساس كهربة الريف، ومصدرًا لطاقة المصانع التي توسعت ثورة يوليو 1952 في إنشائها. أي أنّ النيل قد أصبح في جانب من جوانبه نهرًا "حديثًا" يدعم التصنيع الثقيل، الذي هو عماد التحديث المادي. وارتبطت بداية إنشاء السد العالي بالعبارة الأيقونية التي احتفت بها الثورة: "تحويل مجرى النيل"، بهدف إتاحة المساحة اللازمة لبناء جسم السد دون أن تعوق المياه حركة الإنشاءات. لعلَّ تلك العبارة كانت تعني أيضًا بشكل لا واعٍ: تحويل مسار التراث، ودفعه نحو التحديث. في تلك اللحظة التاريخيّة، لم يعد نهر النيل فقط ذلك الذي يرتبط بالزراعة بما يكفل قوت الناس على ضفتي الوادي، بل صار أيضًا نهرًا يولد الكهرباء، ويسهم بالتالي في نشر العمران والتصنيع الحديث.

في بدايات استعمار كندا وتوطن الأوروبيّين فيها منذ القرن السادس عشر، كان نهر سان لوران يغذي الزراعة في شرق كندا، وبالذات في مقاطعة كيبيك الناطقة بالفرنسيّة، والتي ظلت مقاطعة زراعيّة بالأساس حتى ستينات القرن العشرين. لكن اليوم سان لوران يداعب المخيلة الجمعيّة الكنديّة بوصفه مصدر توليد الطاقة الكهربيّة في شرق البلاد. منذ وصلت الثورة الصناعيّة إلى كندا، ومع بداية القرن العشرين، انضافت الوظيفة الصناعيّة إلى وظيفة الري الزراعيّ التي يؤدّيها النهر.

تطلّ على نهر سان لوران عدّة مناطق صناعيّة، بل إنّ مدينة تروا ريفيير، والتي يعني اسمها حرفيًّا "الأنهار الثلاثة" أو "الغدائر الثلاثة"، كانت تاريخيًّا مدينة صناعية بامتياز. ومنذ منتصف القرن العشرين تحول سان لوران إلى مصدر عظيم لتوليد الكهرباء من خزانات وسدود تغذي مقاطعتي كيبيك وأونتاريو. وصارت شركتا توليد وتوزيع الكهرباء الوطنيتان: "هيدرو كيبيك" في كيبيك و"هيدرو وان" في أونتاريو علامتين على التقدم الحضاري والرفاهيّة ودعم الإنتاج الصناعيّ. يلفت النظر أنّ الشركتين لا تستخدمان اسمًا يشير للكهرباء أو للطاقة، بل إلى الماء، وهو المعنى الحرفي لكلمة "هيدرو".

منذ منتصف القرن العشرين، ومع تعاظم حركة بناء المجتمعات الغربيّة بعد الحرب العالميّة الثانية، تزايد حضور نهر سان لوران بوصفه رمزًا للفخر الوطنيّ، وللتقدّم الصناعيّ، ولمواصلة تحديث المدن الصغيرة والقرى في كندا. ومع تعاظم حضور التيارات المدافعة عن البيئة في كندا، صار توليد الكهرباء من المساقط المائيّة واحدًا من أهم مطالب أحزاب الخضر وأصدقاء البيئة؛ لأنّ توليد الطاقة من الماء أنظف وأقلّ خطورة على البيئة، وأبعد عن التلوث من توليد الطاقة من الفحم أو المازوت أو من توليد الكهرباء بالطاقة النوويّة. اليوم تحول الفخر بنهر سان لوران من تحيَّته بوصفه عاملًا يدعم الصناعة، إلى عامل يضمن إنتاج طاقة كهربيّة نظيفة من الماء. وتحوّل لدى البعض إلى أيقونة تدعم خطاب أحزاب الخضر في كندا. ومنذ تعاظم تيارات العزّة الوطنيّة في مقاطعة كيبيك منذ سبعين عامًا، صار نهر سان لوران أيقونة الهُويّة الكيبيكيّة عمومًا والنزعة الاستقلاليّة عن كندا في مقاطعة كيبيك خصوصًا.

لغات النهر ودياناته

نهر النيل اسمه النيل بالعربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة وفي كافة لغات العالم. أما نهر السان لوران فاسمه كذا بالفرنسيّة، أمّا بالإنجليزية فهو السانت لورنس. سان لوران مكافئها بالإنجليزية سانت لورنس؛ لأن النسخة الإنجليزيّة من اسم لوران هي لورنس، ومكافئ كلمة قديس أو "سان" بالفرنسيّة هو "سانت" بالإنجليزيّة. في سياقنا العربيّ حالات لغويّة مشابهة، مثلما يمكن أن نشير -على سبيل المثال- إلى قديس اسمه بطرس باسم مار بطرس أو القديس بطرس أو سان بيير، فهذه العبارات الثلاث مترادفة وإن حملت أصولًا آرامية أو عربيّة أو فرنسيّة على التوالي. هكذا يحمل النهر الكنديّ سان لوران أثر الجدل اللانهائيّ حول الهُويّة اللغويّة والثقافيّة لكندا، والذي يشتعل بين حين وآخر لما يشبه حربًا أهليّة ثقافيّة بين الأغلبيّة ذات الأصول الإنجليزيّة، والأقليّة ذات الأصول الفرنسيّة. اخترت أن أسمي النهر باسمه الفرنسيّ سان لوران؛ لأنّ مكتشفه الأوروبيّ، وأول من أطلق عليه اسمًا أوروبيًّا، كان فرنسيًّا. لكن تعقد خيوط نسيج المجتمع الكنديّ يجعل لكل شيء اسمًا فرنسيًّا وإنجليزيًّا واسمًّا أو أكثر بلغات الأمم الأولى، الشعوب الأصليّة من سكان كندا لعدة قرون قبل مجيء المستعمرين الأوروبيّين.

ولقد تغنت لغات عدة بالنيل، لا سيما بالعربيّة، وبسان لوران، لا سيما بالفرنسيّة والإنجليزيّة، نظرًا للأهميّة الرمزيّة للنهرين في الثقافتين المصريّة والكنديّة، وخصوصًا في الثقافة الكيبيكيّة الناطقة بالفرنسيّة التي تعتبر سان لوران رمزًا من رموز الوطن الكيبيكيّ. من أشهر القصائد التي تمجد النهر الكنديّ، قصيدة: "أنشودة إلى نهر سان لوران" التي كتبها بالفرنسية الشاعر الكيبيكي الكبير: جاسيان لابوانت عام 1963، مواكبًا لبدايات نشاط التيار الاستقلاليّ الكيبيكيّ. والقصيدة ملحمة في الواقع يزيد عدد أبياتها عن ستمائة وخمسين سطرًا، تمزج بين التأمل في بدايات الحياة على الأرض، متوازية مع ميلاد النهر، وبين تفتّح وعي الذات الشاعرة بجسدها كأمثولة على ميلاد الوعي الوطني بكيبيك. يقول لابوانت بترجمتي:

"أكتب على الأرض اسم كل يوم

أكتب كلّ كلمة على جسدي

(...)

تولدين وحيدة وفريدة يا بلدي

بدايةً سوف أعمّدك بماء النهر

أعطيكِ اسم شجرة فاتح لونها

أعطيك عينييّ يدييّ

أعطيك أنفاسي وكلمتي

سوف تحلمين بين كفيّ المفتوحتين

سوف تغنين في جسدي المنهك

والفجر والظهيرة والليلة الوادعة

سوف يصيرون حقلًا

العيش فيه عشق ونماء"

وما أكثر القصائد والأغاني التي غنت النيل وتغنت بجماله أو برمزيته أو بموقعه من المخيلة الوطنية باللغة العربيّة. لشاعر العربيّة الكبير أحمد شوقي أكثر من عمل مخصص جزئيًّا أو كليًّا للنيل، لعلّ أشهرها القصيدة التي مطلعها:

من أي عهد في القرى تتدفق؟

وبأي كف في المدائن تغدق؟

ومن السماء نزلت أم فجّرت من

عليا الجنان جداولًا تترقـرقُ؟

والبيت الذي يقول فيه: "وبأي نول أنت ناسج بردة/ للضفّتين، جديدها لا يَخْلَقُ؟" يلخص ما أسلفت من تصور النيل كخيط يلحم ضفتي البلاد وينشر الحياة المتجدّدة، حتى إنّها لا تفنى ولا تبلى، وهو معنى عبارة "لا يخلق" بفتح اللام التي يستخدمها شوقي. على أن شوقيًّا وغيره من الشعراء قد جعلوا في العربيّة ميزة للنيل على سان لوران. فعلى حين لا تشتهر أغان بعينها تنشد جمال نهر سان لوران، للنيل حضور قوي في الأغاني والموسيقى، وأغنية الموسيقار محمد عبد الوهاب "النيل نجاشي" من كلمات أحمد شوقي أول ما يخطر على البال في التغنّي بجمال النهر "حليوة أسمر/ عجب للونه دهب ومرمر"، والذي يشير فيها مجاز النجاشي إلى تمتع النيل ببهاء وأبّهة ملكيّة كأبّّهة النجاشي ملك الحبشة. لكن تغلب على الأغنية خفة محببة تؤكّد في المشهد الذي تصفه أنّ قمة الاستمتاع بالحب هو الخروج في نزهة بالفلوكة مع الحبيب، على النيل.

رغم أنّ القصيدة الكيبيكيّة التي كتبها جاسيان لابوانت عن سان لوران تنتمي للشعر الحر الحديث، بينما قصيدة شوقي عن النيل كلاسيكيّة إحيائيّة، وأغنيته عن النهر عاميّة، خفيفة، مرحة، إلا إنّ كلّ هذه الأعمال تتغني بالنهر -في الجنوب كما في الشمال- بوصفه مصدرًا للحياة والخير والنماء، ومناط العزة القومية، وكمَعْلَمٍ طبيعي ذي جوانب أسطورية، بل ومقدسة.

والحقيقة أن فكرة "النهر المقدس" ليست مجرد مجاز ولا مصادفة بلاغيّة، هي جزء من مصادفة تاريخيّة -ومفارقة- ينساها العقل الغربي الذي يتصوّر نفسه دائمًا عقلًا حديثًا، علمانيًّا لا يخلط الدين بالأمور العامّة. فالنهر الأشهر في كندا يحمل اسم القديس لوران أو لورنس لأن تسمية الأماكن والمجاري المائيّة والتضاريس في زمن استكشاف الأمريكتين كانت تتبع منهجًا قادمًا من حساسيّة العصور الوسطى الساعية إلى نيل البركة المسيحيّة. فكان المستكشفون إذا ما اكتشفوا مَعْلَمَاً وأرادوا تسميته، بحثوا في سجلات التقويم الكنسيّة والتي تخصّص كلّ يوم من أيام السنة للاحتفال بعيد قديس من القدّيسين، وسموا المَعْلَمَ المُكْتَشَفَ على اسم القديس الذي يوافق الاحتفال بعيده ذات اليوم الذي وقع الاكتشاف فيه. يحمل النهر الكندي اسم القديس لوران؛ لأنّ اكتشافه على يد كارتييه قد وقع يوم عيد القديس لوران، وفقًا لتقويم القدّيسين في الكنيسة الكاثوليكيّة التي كانت الكنيسة الغالبة في فرنسا.

إن كانت المصادفة التاريخيّة قد جعلت من سان لوران نهرًا كاثوليكيًّا بحكم اسمه، فللنيل أيضًا علاقة بالمقدس، وإن كانت أصول المرويّات المقدسة عن النيل بعيدة، تعود إلى مصر القديمة. فالنيل - أو بالتحديد قواه الحيويّة متجلية في الطمي- كان يتجسد لدى المصري القديم في الإله حابي. كثيرًا ما تصوّر المصريّ القديم الإله حابي في شكل يجمع بين الذكورة والأنوثة، جسم رجل ذي ثديي امرأة، علامة على اجتماع عناصر الخصوبة فيه، أي عوامل الذكورة والأنوثة الضروريّة لتحفيز الخصوبة والميلاد. وكثيرًا ما تصوّر المصريّ القديم إله النيل في شكل جوزاء، وكأنه توأمان، إشارة لتوحيد النيل لمصر العليا ومصر السفلى. وتروي الأساطير القديمة أنّ حابي يطلق النيل بأن يفرغ في مجرى النهر جرّتين، وكأنّه يفرغ جرة للصعيد وأخرى للدلتا.

أقرب للذاكرة الحديثة ما وصلنا عن احتفالات وفاء النيل في مصر القديمة، لا سيما من خلال كتابات جرجي زيدان. في روايات غربية، كان المصريون القدماء يلقون بعذراء في النيل لتهدئة الإله الكامن في النهر، أثناء ذروة الفيضان. واعترض زيدان على هذه الرواية محتجًا بأنّ المصريّين كانوا متحضّرين بما لا يسمح لهم بتقديم قرابين بشرية، وافترض أن ذلك الطقس كان يتمّ بإلقاء عروس خشبيّة إلى النهر. ليست تلك الحكاية متفقًا عليها بين علماء المصريّات، وهي أقرب لروح الأساطير اليونانيّة والعبريّة، لكنّها تشير لما لا شكّ فيه، وهو تصور القدماء للنيل باعتباره إلهًا معبودًا.

الماء وأقرانه

قد تكون الثلوج والجليد أول صور تتبادر إلى ذهن من يفكر في طبيعة كندا اللصيقة حدودها بالقطب الشمالي. لكنّ الماء والثلج -متجمدًا أو ذائبًا في النهر- فرعان من ضفيرة المخيلة الجمعيّة في بلاد الشمال هذه. وقد يكون الطمي والزرع أول صور ترتبط في مخيّلة من يستدعي النيل ومجراه. لكنّ النيل ينحت الصخر الصلد أيضًا ويتضافر مع أسمنت السد العالي وصلب التوربينات ليولّد الكهرباء. النهر في مصر وكندا متعدد التجلّيات والوظائف والمجازات. لكن يظل في البلدين أيقونة من أيقونات الهُويّة الوطنيّة الكبرى. والنيل وسان لوران تحديدًا نهران محوريّان جغرافيًّا وزراعيًّا وصناعيًّا وسياسيًّا وتاريخيًّا في كلّ من مصر وكندا.

Comments


bottom of page