إن الماء هو المادة الأولى والجوهر الأوحد، وهو أصل الأشياء كلها، وما الأرض إلا قرص مسطح مستو يطفو على الماء، هكذا قال الفيلسوف اليوناني (طاليس الملطي 624-550 ق.م) أول فلاسفة اليونان، فالماء يعد أحد أهم أسباب الحياة على وجه الأرض، إذ به يرتبط كل شيء في هذا الوجود، ولا يمكن تخيل الحياة بدونه، ولذلك قال عنه (الله) عز وجل في كتابه العزيز في سورة الأنبياء (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون)، وذلك نظرًا لأهميته في حياة الجميع دون استثناء، ومن ثم راح العلماء يبحثون في مصادره وصفاته، وذكروا بأن 70% من الأرض ومن أجسادنا مكونة من الماء، وربط الفلاسفة بينه وبين أشكال الحياة، وجعلوه المادة الأولى لهذا الكون، كما جعله المتصوفة بشارة لصلاح الأولياء وحسن سيرهم، ورمزًا للطهارة والنقاء.
وفي الأساطير المتنوعة لدى الحضارات والشعوب القديمة رمز الماء إلى أصل الوجود، وإلى نشأة الحياة والكون، حيث تذكر الأسطورة الفرعونية القديمة أن ما يعرف بـ (مياه الفوضى، أو مياه الأزل) هي تلك المياه التي تخرج منها اليابسة ويتشكل الكون عن طريقها، وقد خرج معها الإله (رع) لينظم هذا الكون، بينما في الأساطير السومرية بدأ تشكل هذا الكون من خلال الإله (نمو) أو مياه الأزل، وهذه المياه قامت بخلق (أن) إله السماء الذكر، و (كي) إلهة السماء الأنثى، وفي معظم الأساطير القديمة دل الماء على بداية خلق هذا الكون.
ولم تغب أهمية الماء وقداسته عن مخيلة الأدباء والشعراء قديمًا وحديثًا، فراحوا يتناولونه في نصوصهم، ويصورون مصادره وأشكاله، ويرمزون له بالحياة مرة، وبالموت مرة، وبالحب مرة، وبالطغيان مرة أخرى، وأكثروا من الدلالات الناتجة عن رمزيته داخل مخيلاتهم المتعددة.
وقد كان الشعراء في فترة الحكم الإسلامي بالأندلس أكثر من تحدثوا عن الماء وأشكاله المتعددة، يرجع ذلك إلى طبيعة المكان الذين يعيشون فيه، وما تتسم به بلاد الأندلس من أنهار وأشجار وحدائق وبرك ومستنقعات، فضلًا عن الأمطار التي يكثر نزولها على هذه البلاد طيلة أيام السنة، فقد كانت الأنهار والأودية تمر في أكثر مدن الأندلس، واشتهرت أكثر من مدينه بأنهارها وبحارها، لا سيما مدينة اشبيلية، وغرناطة، وطليطلة، ولذلك نجد الشعراء قد تغنوا بتلك الطبيعة التي يرتبط تميزها وفرادتها بالمياه وكثرتها، إذ نجد الشاعر ابن خفاجة الأندلسي يقول في ذلك: (ديوانه، ص364):
يا أهل أندلــــــــس لله دركــــــم
ماء وظل وأنهــــــــار وأشــــجار
ما جنة الخلد إلا في دياركـــم
ولو خيرت هذا لكنت أختــــــــــار
لا تتقوا بعدها أن تدخلوا سقرا
فليس تدخل بعد الجنة النــــــــار
ونجد أن هناك أكثر من شاعر أندلسي جعل معظم وموضوعات شعره ترتبط بالماء وتشكلاته المختلفة، بل قلما نجد شاعر أندلسيًا لم يعدد من ذكر الماء في شعره، ويقرنها بموضوعاته وأغراضه، حتى إننا نجد – على سبيل المثال- أن ابن خفاجة قد قرن كل من المديح والغزل والرثاء وكافة الأغراض الأخرى بالطبيعة، ولا سيما الماء الذي شكل لديه نقطة دلالة مركزية تستقطب كافة توجهات نخيلته الشعرية، وكذلك نجد ابن زيدون يقرن الماء بالشكوى والعتاب وكذلك الاستنجاد والاستعطاف، فنجده – على سبيل المثال- يشكو حاله من داخل السجن ويقرن ذلك بالماء، إذ يشبه نفسه بالماء الذي سيأتي عليه وقت وينبجس من داخل الصخر، قائلًا: (ديوانه، ص 148):
إن قسا الدهر فللماء
من الصخر انبجـــــــــاس
ولئن أمسيت محبوسًا
فللغيث احتبــــــــــــــــاس
وفي العتاب والتغزل والوحشة نجد شعراء الماء كذلك يعبر عن الحالة النفسية لشعراء الأندلس، ويعكس ما في صدورهم وأرواحهم، مرتبطًا بصورهم الشعرية أشد الارتباط، فها هي الشاعر الأندلسية ولادة بنت المستكفي تعتمد على لفظة الماء في وصفها للأرض التي تتمنى أن ينزل بها ابن زيدون، وذلك عندما بعثت له برسالة عتاب وشوق قائلة: (انظر نفح الطيب، ج4/ ص206):
تمر الليالي لا أرى البين ينقضي
ولا الصبر من رقّ التشوق معتقــــي
سقى الله أرضًا قد غدت لك منزلًا
بكل سكوب هاطل الــــــــــــوبل مغدق
إذ تتمنى ولادة أن يسقى الله تلك الأرض التي سينزل بها ابن زيدون بالمطر الشديد الغزير، وهي دعوة للخير والحب والرخاء.
ومن ثم نجد عددًا من شعراء الأندلس يرتبط ذكرهم في الثقافة العربية بذكر الطبيعة والماء معًا، فنجد ابن خفاجة يلقب بـــــــ (صنوبري الأندلس) نسبة إلى الشاعر العباسي الصنوبري، واشتهاره بوصف الطبيعة بشكل عام، والماء بشكل خاص، ونجد شعراء أندلسيين من أمثال: ابن دراج القسطلي، وابن زيدون، وابن اللبانة الداني، ولسان الدين بن الخطيب، وغيرهم الكثير لا ينفكون عن تصوير الماء في أشعارهم، وتوظيفه توظيفًا فنيًا ودلاليًا.
وقد تناول الشعراء الأندلسيون الماء في أشعارهم بمسميات ومصادر مختلفة، حيث ثمثل لديهم في السحاب والغيم والأمطار والندى والأنهار والبحار، وعددوا داخل أشعارهم من هذه المسميات، إذ تعددت أسماء البحار والأنهار كـــــــــ: اليم، والعباب، والموج، والخضم، والنهر، والبحر، وفي مسميات الأمطار، كـــــــ: القطر، والوابل، والرهمة، والودق، والطلل، والندى، والحيا، والغيث، وكذلك في مسميات السحاب، كــــــ: الضاب، والعرض، والمزنة، والربابة، والغيم، وغيرها من المسميات المتعددة.
وقد رمز الماء – في حياة الأندلسيين- إلى الخير والنماء والسعادة والسعة وكذلك الحب، وجاءت أشعارهم ثرية بألفاظ الماء المتعددة، وقاموا بصياغة تجاربهم الذاتية والتعبير عنها من خلال الماء، إذ لا تجد وموضوعًا أو تعبيرًا أو وصفًا إلا وارتبط لديهم بالماء.
-ابن خفاجة، صنوبري الأندلس:
عُرف ابن خفاجة الأندلسي بصنوبري الأندلس لارتباطه بوصف الماء، ووصف الطبيعة الأندلسية داخل أشعاره، إذ تميز عن كافة شعراء الأندلس في ذلك، وابن خفاجة هو: أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجة الهواري الأندلسي، ولد في بلدة بشرقي الأندلس تسمى جزيرة (شُقر) التي تتبع مدينة بلنسية، وهذه الجزيرة كان يحفها نهر عظيم من جميع جهاتها، وقد قضى فيها معظم أيام حياته، وكانت ولادته سنة 451 هجرية، وكانت أسرته أسرة ذات مكانة وثراء، كما يدل على ذلك سلوكها في تنشئة الشاعر، ثم توريثها له ضيعة تحقق له الكفاية وتتيح له التوفر على الأدب، وقد تلقى الشاعر علوم عصره – وخاصة في اللغة والأدب- على عدد من كبار مؤدبي عصره، وتلقى علومه في مدينة بلنسية، وشاطبة، ومرسية، ونشأ على حب الأدب نثره وشعره، ولكنه تعلق بالشعر وعرف به أكثر من غيره، وآثر من مذاهب الشعر مذهب المحافظين الجدد، وفضل بصفة خاصة – من بين الشعراء الذين تتلمذ على شعرهم- الشريف الرضي، ومهيار الديلمي، وعبد المحسن الصوري، وكانت له نزعة خلقية إلى حب الطبيعة، وكان لنشأته في جزيرة شقر أثر كبير في تنمية هذه النزعة، وتوجيه الشاعر إلى شعر الطبيعة بصفة خاصة.
وقد اتصل ابن خفاجة ببعض ملوك وأمراء عصره، كالأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين الذي مدحه، كما مدح بعض المسئولين غيره، وقد كان الشاعر بالرغم من مدائحه كريم النفس ذا اعتزاز وأنفة.
وفي عهد الشاب، كان ابن خفاجة يميل إلى التمتع بـأنواع الملذات واللهو، ولكنه بعدما كبر أعرض عن هذا، واتجه إلى الزهد في الحياة وفي الملذات، وانشغل بالتفكير في حقيقة الحياة، وحقيقة الموت، وأخذ يخاطب الطبيعة في ذلك ليخرج ما يكنه صدره من توتر وحيرة وتفكير مستمر.
وكان ابن خفاجة أميل إلى الإقامة في بلدته الجميلة شُقر. ومع ذلك كانت له بعض الأسفار التي كان أكثرها إلى أماكن قريبة في بلاده، كتلك الرحلة التي قام بها إلى المغرب، والتي لم يبتعد خلالها عن وطنه طويلًا، وذلك لتعلق الشاعر ببلاده تعلقًا شديدًا، وخاصة موطنه شُقر. ويتضح ذلك من بعض أشعاره التي تعكس لوعة الشوق وحرقة الاغتراب ولهيب الحنين إلى الوطن الأم.
وعلى الرغم من أن الشاعر قد انقطع عن قول الشعر فترة من حياته – ربما لأسباب نفسية، وربما لأسباب سياسية في عصر الطوائف- فإنه قد عاود الإبداع بعد هذا الانقطاع. وتوفر له من الشعر ديوان كبير كان قد جمعه بنفسه خشية من ضياعه، وكان المعجبون به والمريدون له يفدون عليه لتلقي الشعر منه وروايته عنه. وكان ابن خفاجة بهذا الشعر قد بلغ مكانة عظيمة بين شعراء الأندلس، وأصبح الأندلسيون يفخرون به ويكثرون من الثناء عليه. ولذا لقبوه الجنان، وأطلقوا عليه صنوبري الأندلس، وقد تحدث عن فضله ومكانته أكثر من مؤرخ، فيقول عنخ الفتح بن خاقان في كتابه: قلائد العقيان (مالك أعنة المحاسن، وناهج طريقها، العارف بترصيعها وتنميقها، الناظم لعقودها، الراقم لبرودها، تصرف في فنون الإبداع كيف شاء)، وتحدث عنه ابن بسام الشنتريني في كتابه: الذخيرة قائلًا (الناظم المطبوع، الذي شهد بتقديمه الجميع، المتصرف بين حُكمه وتحكّمه البديع).
وبعد حياة حافلة بالإبداع الأدبي، وخاصة في الفن والإبداع الشعري، وبصفة أخص في وصف الطبيعة، توفي ابن خفاجة في بلدته شُقر سنة 533 هجرية. وقد بلغ من العمر اثنين وثمانين عامًا.
وفي شعر ابن خفاجة نجد الكثير من المواضع التي ارتبطت بالماء وتصويره، ولا غرابة في ذلك فهذا الشاعر ارتبط بجزيرته التي عاش فيها – جزيرة شقر- وما اتصفت به من أنهار وبحار وحدائق منتشرة بسبب المياه، فراح الشاعر يصور كل ذلك في أشعاره، بل جعل الماء هي المصدر الأول في تشكيل صوره ومعانيه، فإذا مدح شبه ممدوحه بالبحر في كرمه وفضله، وإذا تغزل شبه محبوبته بالنهر في جماله، وإذا وصف كان الماء هو ملهمه الأول، بل يذهب لأكثر من ذلك فيهب – الماء- سمات الأنسنة والتشخيص، والحضور المؤثر، ونلاحظ ذلك في أحد أشعاره التي شبه فيها الماء بإنسان له أعين تراقب ما حولها، فنراه يقول في وصف ثمر النارنج فوق أغصانه، وقد قعد له الماء يراقبه ويلاحظه من بعيد: (ديوانه، ص70):
ومحمولة فوق المناكب عــــــــــــــــــــزة
لها نسب في روضة العز معرق
رأيت بمرآها المنى كيف تلتــــــــــقي
وشمل رياح الطيب كيف تفــرّق
يضاحكها ثغرٌ من الشمس واضــــح
ويلاحظها طرف من الماء أزرق
فابن خفاجة في هذه الأبيات يجعل الماء إنسانًا له طرف يراقب به ثمرة النارنج وهي تتألق فوق أغصانها، والأبيات جميعها ما هي إلا تعلق بالطبيعة، واستغراق في وصفها جمالها، فهو يعكس لنا في البداية صورة ثمرة النارنج، ثم يصور يؤنسن الشمس ويجعل لها ثغرًا به تضاحك تلك الثمرة، وكذلك يؤنسن المياه فيجعل لها طرفًا أزرقًا يراقب ما حوله.
وابن خفاجة دائما ما يقرن الماء بالغزل، والغزل بالماء، فنجده يكثر من وصف الأنهار والبحار، وكذلك الأمطار مشبهًا إياها بالمحبوبة، وفي الوقت نفسه نراه يصف الماء وكأنه يرسم لنا لوحة غزلية تنم عن عاشق موله بمعشوقه (الماء)، ومن ذلك نراه يقول في وصف أحد الأنهار وكأنه يصف فتاة جميلة رقيقة: (ديوانه، ص365):
لله نهر سال في بطــــــــــــــحاء
أشهى ورودا من لمى الحسنــــــاء
متعطف مثل السوار كأنـــــــــــه
والزهر يكنفه مجر سمـــــــــــــــاء
قد رق حتى ظُن قوسًا مفرغًـــــا
من فضة في بردة خضــــــــــــــــراء
وغدت تحف به الغصون كأنهــــا
هدب تحف بمقلة زرقـــــــــــــــــــــاء
ما يمكن قوله في النهاية أن الماء قد مثل في حياة الأندلسيين مصدرًا من مصادر الإلهام والإحساس بالطبيعة وتصويرها، وقد أكثروا من ذكره ووصفه في إبداعاتهم المتعددة، وكان الشعراء من أكثر المهتمين بفكرة (الماء) التي كانت تعكس لديهم هوية الحياة الأندلسية وطبيعتها، وقد كان ابن خفاجة من أبرز الشعراء الأندلسيين الذين ارتبطوا بالماء، وعدوه حقلًا خصبًا لقرائحهم الشعرية، وقاموا بالربط بينه وبين كافة الموضوعات الشعرية المتنوعة.
Kommentare