إن أشكال التواصل الإنساني بالماء، تدلُّ بوضوح على أهمّيته، ليس فقط بوصفه عنصرًا للحياة والحضارة، بل عنصرًا ملهمًا ومؤثرًا في الخيال وفي نمط وجوده؛ فحيث تتفجر الينابيع وتعبر الأنهار يقيم الإنسان بيته، وحيث يمتد البحر يرمي شبكته ويبني قاربــــه. فالإنسان يحلم ويكتب قصائده وحكاياته من خلال التواصل مع مكونات الطبيعة، لكنّه ليس الطرف الوحيد الذي يحلم ويتأمل ويتواصل، بل يظهر أن الموجودات تبث رسائلها وتتغلغل في داخله وتفجر في أعماقه مادة حلميّة، إنّها تخلق وتتخلّق عبر توليد المعنى واللّغة.
في مقال عن الماء لا يمكن تجاوز العبارة التأسيسيّة للفيلسوف الأيوّني طاليس، والذي جعل منه "أصل الوجود"؛ لكن التراسل السحريّ بين الإنسان والعالم سيتدفق من عروقِ منجمٍ آخر: اللحظة التي تجسِّد مشهد الفيلسوف البكّاء هيراقليطس أمام نهرٍ جارٍ ألهمه مرثيّته الأشهر: "لا نستحم في مياه النهر مرتين".
يمكن تخيُّل هول الأسى الذي تحمله هذه الشعريـــّة عند فيلسوف الصّيرورة وهو، بلا شكٍّ، أسىً مفتوح على الدلالـــة ضمن مروحةٍ واسعة من التفسيرات التي ستنحدر من صلب هذه العبارة التي وصفت بأنها كتبت "بحركةِ موت".
ونحن في تأملنا اليوميّ، سنعثر ولا شك في تدفق المياه وفي وركودها، في سكناتها، وهياجها، وأشكال انبثاقها من الأرض، أو سقوطها من السماء، في النبع والنهر والشلال، على مرآة تعكس علاقتنا بالكون؛ وفي هذه العلاقة التي تتذبذب بين الرؤية العلميّة المنحدرة توًّا من الانقلاب على الفكر الأسطوريّ، وبين الرؤية الروحيّة التي تجد في العالم لغة يسمعها العارف دروسًا جديرة بالانتباه، فإن أشكال التواصل الإنساني بالماء، تدلّ بوضوح على أهمّيّته، ليس فقط عنصرًا للحياة والحضارة، بل عنصرًا ملهمًا ومؤثرًا في الخيال وفي نمط وجوده؛ فحيث تتفجر الينابيع وتعبر الأنهار يقيم الإنسان بيته، وحيث يمتد البحر يرمي شبكته ويبني قاربــــه. إنّ الإنسان يحلمُ ويكتب قصائده وحكاياته من خلال التواصل مع مكونات الطبيعة، لكنّه ليس الطرف الوحيد الذي يحلم ويتأمل ويتواصل، بل يظهر أنّ الموجودات تبثّ رسائلها وتتغلغل في داخله، وتفجّر في أعماقه مادة حلميّة، إنّها تخلق وتتخلق عبر توليد المعنى واللّغة.
وفي القصص الدينيّ نجد البحر يتصلّب فيمشي عليه المسيح، وينشقّ غاضبًا ليبتلع فرعون وأعوانه مفسحًا المجال لعبور موسى وأتباعه آمنين "ثم عادت المياه للتدفق لتبتلع مطارديهم"
وبحر هائج يلطم السفينة التي تقل يونس عليه السلام مستاء من قومه. "سار حتى ركب سفينة في البحر، فاضطربت براكبيها حتى كادوا يغرقون، وكان لا بدّ من إلقاء راكبٍ من ركّابها لينجوَ الآخرون، وما كان من حلٍّ إلا أن يقترع ركّاب السفينة، فمن خرجت قرعته أُلقي في البحر، فلما اقترعوا وقعت القرعة على يونس"
هذه المعاني تعطي معنى المشاركة للماء في صنع المعنى الإنسانيّ، يكتسب فيه سمات إنسانيّة، كالغضب والحنين "الموج الذي حمل الطفل في سلة" والعطاء والتجدد، بل يمتد حتى نجد الصور الشعريّة اللغويّة وتنتفي الحدود بين ما ينتمي للبشر وما ينتمي للماء. فالبئر التي لا تمنح وتعطي تتعفن، كالبخل بمعنييه الماديّ والروحيّ عند الإنسان، إنّه تعفن الذات، ويصبح العطاء والتواضع درسًا من دروس النهر الذي يتدفق دون مباهاة أو ادعاء. إنّه العطاء الماثل في الإنصات والاعتراف بحقّ الآخرين واكتشاف الجديد؛ وإذا لم يتمَّ سحب الماء ليوم واحد فإنّ منسوبه في البئر لا يرتفع، بل إن البئر تنشف، وسنعثر في الآيات الدينيّة على البئر المعطلة والأنهار التي تجف في قرى يتسم أهلها بالظلم والبخل والطغيان، هذه العلاقة بينه والقوى الداخليّة للإنسان سوف تجذب انتباه الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار والذي سيعمد في كتابه "الماء والأحلام" لتحرّي ثمار هذا اللقاء الحميم بين العاطفة والخيال والمادة لتتولد الصورة الشعرية. وسيخصص مؤلف "شاعريـــّة أحلام اليقظة" دراسة كاملة لتمثلاته، والصور التي تعود للعقل ما قبل العلميّ أو الأسطوريّ، ليصبح بموجب هذه الرؤية صورة محلومة أو "كأنّ الماء يحلم عبرنا ومن خلالنا"
ومن هذه الصورة التي تنشأ جراء هذا اللقاء، يؤسس باشلار ما يطلق عليه علم نفسٍ للمادة أو علم نفس فيزيائيّ للكون. وفي هذه الرؤية تتعدد صوره وتتنوع أشكال وجوده (كالنبع العذب، المياه الرقراقة، النهر، البحر، والمياه الراكدة) وتتعدد الأصوات اللغويّة التي تنجم عن تدفقه (خرير النهر، هدير الشلال، صخب الموجة، غضب البحار، حزن الماء الراكد وثقله).
تحمل هذه التفسيرات عند باشلار، ملامح أسطوريّة ورموزًا ما قبل علميّة في لحظة تكوّنها في العقل الطفليّ المقابل لطفولة الماء المتجددة. فالوجود قصيدة كبيرة، تجد أدقّ تمثُّل لها في الحكاية الشفاهيّة، والقصص الأسطوريّة، والصورة الشعريـــّة، حيث سنقع على سمات بشريّة وتواصليّة، فهناك: بحيرات ساكنة، وينبوع شفاف كالبشر، وآخر عكر كالروح التي تختلّ بالبخل والسوء والغيظ. وثمة ينبوع حساس و"بصورة خاصّة عندما تلمس يد الإنسان صخرة من حافته، سرعان ما ينتفخ الينبوع خارجًا عن طوره، ويطيّر زوابع من رمل، شبيهة بأمواج بحر هيّجته عاصفة".
وبهذا يمكننا التحدث عن الساقية المجنونـــة، والشلال المندفع، والمطر الحزين، والبحيرة المرآة، والكون الذي يرى نفسه على صفحتها، فلكلّ صورة مقابل نفسيّ، ومقابل شعريّ، وهذا يعيدنا للماء الهراقليطي الذي أوحى تدفقه بالتغيّر والصيرورة والزوال، لنرى أشكال موته. "في البرك الراكدة والمياه الميتة - الثقيلة - المياه غير المتحركة التي تستحضر الموتى؛ لأنّ المياه الميتة مياه نائمة".
ويصبح الكون وفق هذا المنظور ذاتـــًا، فالبحيرات عيون وهي مشابهة للعيون الإنسانية "أوليست عيوننا هذه البركة الصغيرة غير المكتشفة من النور السائل الذي وضعه الله في أعماقنا"!. ويغدو الماء دلالة نرجسيّة الكون، ونرى القمر معكوسًا على صفحته، والأشجار والقمر والسماء وكأنها تتمرى فيه، إنّه الكون النرجسيّ، يرى نفسه في بحيرة. والصورة الشعريّة تنشأ من هذه اللحظة في كون تصبح النداوة فيه: "قوة إيقاظ".
وفق هذا الفهم يصبح كلّ ما ينعكس فيه مصبوغًا بسمة أنثويّة؛ فانعكاس القمر الفضيّ على صفحة البحيرة يعيد صورة الأم التي تغذينا من حليبها، إضافة إلى البعد الأيروسيّ، حيث إنّه يستحضر من جهة أخرى، العري الطبيعيّ "العري الذي يستطيع الاحتفاظ بالبراءة."
وما الذي يثيره مرأى قارب يتهادى فارغًا؟ أو مشهد جثة عائمة من صور شعريّة ووجوديّة؟
"كالقشة التي تحملها الساقية حين تصبح الرمز الأبديّ لمعنى قدرنا"، وقد يكون الماء في عواصفه عنصرًا متألمً، كما عند لا مارتين، أو موتـــًا كما تمثل في شعر وأدب إدغار آلان بو.
ولن يتردد صاحب "التحليل النفسي للنار" أن يكتب: ولذلك؛ ولكي تثير الصورة مخيّلة الحالم، يجب أن يكون في مقدور بعض العناصر الماديّة في العالم أن تحمل لنا قوتها الحلميّة، فعظمة الإنسان بحاجة إلى أن تقاس بعظمة العالم".
هذا التماهي بين الإنسان وعالمه يتحوّل في الفلسفة الشرقيّة عمومًا والتاويــــّة خصوصاً، إلى دروس أوليّة للفهم وفي هذه المعرفة يصبح الماء عنصرًا مؤثرًا ولحظة مهمة في الاستنارة الروحيّة يتجسد هذا الفهم في مقطع من قصيدة ميرلان الساحر لإدغار كينيه
ماذا تفعل لتهدئة بحر غاضب؟
ويجيب:
أتمالك غضبي
حيث تعامل الطبيعة لا بوصفها قوةً يجب ترويضها، كما في الفهم الغربي لها، ولا بكونها شيئًا يجب استخدامه، بل تعتبر مرشدًا روحيًّا للإنسان، ومعلمًا يجب الإنصات إليه. فالإنسان يخوض كلّ يوم حروبـــًا مع ذاته، لأنّه يريد كلّ شيء دون فهم، والمفتاح لفهم العالم هو: فهم الذات، لذا تستولي عليه طموحاته وأطماعه، والتي تنتهي بهزيمته الماثلة في أشكال مختلفة من الإنهاك والتيه والخواء والاكتئاب. إنّ الإنسانَ الآن يقع ضحيّة منظومة اقتصاديّة تغريه بالكمال الماديّ، وثقافيّة تغريه بالنجاح الشكليّ وقوّة المنافسة والتغلّب، وتيّارات دينيّة تغذّي عقدة العظمة الزائفة، وأنظمة اجتماعيّة تسلبه الوضوح وترميه في نمط عيش زائف. وبذا تُصبح القوة قيمة عليا، القوة بمفهومها التنافسيّ والمنهك. لكن يمكن أن يكون الماء لحظة تعلم، عبر التأمل في البساطة والهدوء اللذين يميزانه؛ ليصبح التغيّر والموت والزوال وكل ما يثير الفزع - وفق هذا الفهم بخلاف الفهم الهراقليطي - حركة حياة لا حركة موت.
في كتاب "الطريق والفضيلة" للحكيم الصيني لاو تسي، بترجمة عبد الغفار مكاوي، والذي يعود إلى ما قبل 2600 سنة نقرأ هذه القصيدة:
الخير الأسمى يشبه الماء
يفيد كل الأشياء دون خلاف:
في التأمل يبقى متواضعًا،
في الوجود يتدفق إلى الأعماق،
في التغيير هو صادق،
في المواجهة يبقى لطيفًا،
في الحكمة، إنّه لا يسيطر،
في العمل، إنه يتوافق مع التوقيت،
إنه راضٍ بطبيعته
وبالتالي لا يمكن أن يُنتقد".
في هذه القصيدة نعثر على سمات الماء، كالانفتاح على التغيير والعمق، والقابليّة ليكون مرنـــــًا. والتواضع أثناء تدفقه لتشرب منه الموجودات.
ويرى الحكيم في هذه القصيدة عدة دروس، ومن أهمّها: الانسجام بمعنى التدفّق ومواجهة العقبات دون قوة، بل بهدوء كما يلتفّ النهر حول الصخرة. ويمثل التغيّر والمواجهة والحكمة بمعنى رفض السيطرة بالانفتاح على الآخر للتعلم والمساعدة. فالآبار التي لا يتمّ أخذ المياه منها تميل إلى أن تكون مياهها قذرة وغير صالحة للشرب، هذا هو قانون الطبيعة. كتب الفيلسوف البريطاني والمنطقي برتراند رسل مرة: "أكثر ما يميز الأشخاص الأذكياء هو قدرتهم على تغيير آرائهم بناء على حقائق جديدة، وقد وصف الحكماء والمبدعين والفنانين في الحياة بأنّهم يعيشون كالماء، لا يرتبطون بجداول أو مخطّطات يوميّة، ولديهم مرونة في الشدة واللين كما هي حركته، فلا يسير في خطوط مستقيمة، وبإمكانهم التعلّم من الماء معنى العيش بسلام. في حكاية تاوية قديمة: "بلغ الحكيم السبعين من عمره؛ فوهن جسده، فعزم أن يهجر البلاد إلى البعيد، جمع في جرابه الكتاب الذي تعود أن يقرأ فيه والقليل من الزاد؛ وركب ثوره الأسود، يسحبه تلميذه. وعندما بلغ مخفر الحدود تقدم حارس الجمرك الشاب وتطلع في وجه الشيخ وسأل: "هل من شيء يستحق الضريبة" فأجاب "لا شيء"
وقال الصبي: لقد كان يعلّم، وعاد حارس الجمرك يسأل: "وماذا كان يعلم؟" فقال الصبي: إنّ الوداعة تغلب الشدة، وإن الماء يفتت الصخر"
في مقال عن الماء لا يمكننا تجاهل السؤال العلمي للفيلسوف طاليس الأيوني، ولكن لا نستطيع إلا مجاوزته. وها نحن نسأل: ما الذي سيعنينا من وجود لا يعلمنا، ولا يغذينا بالمعاني التي تتوالد دون توقف؟ ليس فقط لنتملك صورة شعريّة، بل عبر تعلّم قيم جديدة كلّ يوم، قيم تتجاوز التفتح والتغيير إلى الانسجام مع عالم لا يتوقف عن التغيير. إن دروس الماء لا تتوقف عن توليد الصور الشعريّة والمعاني الفلسفيّة والوجوديّة، والسر في بساطته الشديدة ونكرانه لذاته حدّ الشفافية التي رغم لا مرئيتها يمكن العثور عليها، في: الزهرة، والشجرة، وفي دمِ الإنسان، وكأنّنا نتمثل من جديد قول طاليس: "أصل الحكمة ماء".
Comentarios