إن الحديث عن اللغةِ العربيةِ، حديثٌ ذو شجون، لغةٌ ظلت صامدة، قوية، فخمة، أمام جميع الحملات التي كادت وما تزال تكيد لها. هذه اللغة التي نزعم أن العرب لم تعطها هويتها، بل هي التي أعطت للعرب هويتهم، وأمة بلا لغة هي أمة بلا هوية. وليس غريبًا أن تجد من أبناء العربية، من يتحمس لها، معطيًا إياها ما يجب من قدر وقيمة، لن أن يعرف قيمتها كُتَّاب من غير أبنائها، فهذا هو الجديد، يقول الكاتب والمستشرق الألماني فولف ديتريش فيشر: "لا أعرف لغة أغنى من العربيّة ولا أسلس قيادًا ولا أرق حاشية". (1)
ثم يقول : "وبعد اطلاعي على عدد من اللغات الشرقية كالتركية، والفارسية، أعجبتني اللغة العربيّة إعجابًا كبيرًا؛ وذلك لأنني رأيت أن بناءها اللغوي ونظامها النحوي يعدَّان من أوضح أشباههما في لغات العالم، ولأنها لعبت دورًا هامًّا في نقل المعارف والعلوم إلى الحضارات الأخرى". ويجدر بنا أن نستدعي هنا، شهادة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في المسألة؛ يقول العميد في سياق دفاعه عن اللغة العربية: "ولعلي أن أكون قد وفقت في هذه المقاومة إلى حد بعيد وسأقاوم ذلك فيما بقي لي من الحياة وما وسعتني المقاومة لأني لا أستطيع أن أتصور التفريط ولو كان يسيرًا في هذا التراث العظيم، الذي حفظته لنا اللغة العربيّة الفصحى ولأني لا أؤمن قط، ولن أستطيع أن أؤمن بأن للغة العاميّة من الخصائص والمميزات ما يجعلها خليقة بأن تسمى لغة، وإنما رأيتها وسأراها دائما لهجة من اللهجات قد أدركها الفساد في كثير من أوضاعها وأشكالها، وهي خليقة بأن تفنى في اللغة العربيّة الفصحى إذا نحن منحناها ما يجب لها من العنايّة وارتفعنا بالشعب عن
طريق التعليم والتثقيف، وهبطنا بها هي من طريق التيسير والإصلاح الى حيث يلتقيان في غير مشقة ولا جهد ولا فساد".
ونعود مرة أخرى إلى التجربة الألمانيّة في التغلب على ذلك، وأدواتها التي حفظت الألمانيّة مرة أخرى، وأيضًا حسب فيشر: "كانت الحال اللغويّة في ألمانيا قبل مئة سنة خلت قريبة من الحال في البلاد العربيّة في الوقت الحاضر، وهذا يعني أن أغلبيّة الناس كانوا يتحدثون بلهجاتهم المحليّة شفهيًّا، بينما كانت الفصحى تقتصر على الاستعمال كتابةً. ثم بدأت بعد ذلك طبقة المثقفين بالتحدث مع أولادهم باللغة الفصحى، واستمر انتشار هذه اللغة من جيل إلى جيل حتى كُتب لها أن تتحول إلى لغة منطوقة فاستعملها كل الناس كتابةً ومشافهةً، وكانت المدارس الابتدائيّة من أهم العوامل في انتشار اللغة الفصحى". فهل بإمكاننا أن نعتمد التجربة الألمانيّة في هذا الخصوص ونفيد منها؟!!
أما إذا انتقلنا إلى اللغة العربيّة بوصفها لغة إبداع، فنأمل أن يكون من المقبول ما ننادي به في كتاباتنا نحو توليد اللغة، أو
إسقاط النص في أرض الواقع في بعض مما يلي إذا ما حالفنا التوفيق في عرضه :
أولًا : اللغة التي هي الحاضن والإطار أو الرحم الذي تسقط فيه الفكرة (النطفة) ويتم الإخصاب؛ فإن توافقت الجينات وتعارفت بدأ الجنين (المُنْتَج) يتخلق طبيعيًّا دون أيّة تشوهات.
:ولابد هنا من الفصل بين اللغة الشاعرة واللغة المعجمية
"فلا شك يتفوق الشعر حسب عبد الحكم العلامي؛ عند هذه الطبقة من الشعراء الذين تكون لغتهم على علاقة مباشرة، وحميميّة بالشعر، على عكس أولئك الذين تكون لغتهم على علاقة مباشرة بالمعجم وحسب".
(2)
ثانيًا: كثيرون من محبِّي اللغة العربية، ومجيديها، وأصحابِ النبرةِ العاليّة في الحديث بها ـ وعنها - حجَّموا الإبداع في الفخيم والمعجميِّ منها، فنتج عن ذلك التقوقعُ في قالبٍ محدد، لغوي تارةً، وموسيقي تارةً أخرى.
ورفضوا حتى مجردَ التفكير في الخروج من هذه الغرفة، حتّى وإن كان الظرفُ الأدبيُّ أو الحياتيُّ لا يستدعي هذه الفخامةَ وهذا الجرسَ، فانغلقوا على أنفسهم، وأغلقوا أبوابًا فاعلةً، كان من اليسير عليهم أن يلِجوها، فاتحين بها آفاقًا ومنعطفاتٍ شتَّى، ومحدثينَ بها عصفًا، وتوالدًا لأجيالٍ لغويّة جديدةٍ تنتمي للغة الأمِّ، متواصلاتٍ بحبلها السُّرِّيِّ، حاملاتٍ جيناتها
الأساسية، ولكنها أكثر شبابًا، وتجددًا وطاقةً، وخلايا، وحيويةً، ليصبَّ كلُّ ذلك في خدمةِ الفكرةِ والطرح.
وكثيرون ـ أيضًا ـ لم ينفتحوا على اللغةِ الفخيمةِ والمعجميةِ، فتبسطوا حد الخلل، وراحوا يبنونَ إبداعهم بشيءٍ من يسيرِ اللغة، ومحدوديّة الإتقانِ، وانتفاءِ الجرسِ والموسيقى، بل وحتى الإيقاعُ الداخلي لم يعد ملموسًا، فقدموا إبداعًا أو كتاباتٍ هشَّةً، تهبط باللغة وبهم، وقد وقعوا في النفقِ الهشِّ كما وقع أصحاب الفريق الأول في النفق الفخيم والمعجمي، وأعتقد أن كليهما أضرَّ وأضير. " هامش أ "
ثالثًا:
أما الذين تعاملوا مع اللغة على أنها الأداةُ، والبَوصلةُ، والدفَّةُ، وقصَّاص الأثر، وعجلةُ القيادة، ليصلوا بكل هذا إلى الهدفِ
الأخيرِ مباشرةً، وعلموا أيضًا أن الإطار "الكاوتشوك" ليس هو الذي يحمل السيارة، بل الهواءُ الذي يملأ هذا الإطار.
هؤلاء هم الذين استطاعوا أن يمتطوا فرسَ اللغةِ، فكانوا أسرعَ وصولًا، وأصدقَ عاطفةً، وأعظم احتكاكًا وتوهُّجًا، فلمسوا
الواقعَ المعيشَ والإنسانيَ، من دون أن ينفصلَ المتلقي عنهم، أو ينفصلوا هم عن المتلقي.
بل واستطاعوا خلقَ كيمياءَ متجانسةٍ بينهم وبين المجتمع وقضاياه، فتفرَّدوا، وتجاوزوا، وأصَّلوا، وقادوا، وصارت لهم وبهم
مدارسُ جديدةٌ، بل ومفرداتٌ تصكُّ بأسمائهم.
فتعددت الأجناس الأدبية، التي ربَّما هي الراكز الأساسيُّ في الإبقاء على اللغةِ، وتناميها وتحديث الـ software الخاص
بها "إن جاز التعبير".
رابعًا: هناك مسؤوليّة استدعاء التراث، على أن يُعرضَ بالشكل الذي يتناسب وعصرِ المتلقي، ومن المفيد هنا استدعاء دعوة
الدكتور/ أحمد درويش لــ "تبسيط التراث القديم" لأنه حسب قوله: "الكتلة تستعصي قليلًا على عمل الرافعة ".(3)
وفي محاضرته التاريخيّة في نادي القصيم، والتي كانت تحمل عنوان "آفاق النص الأدبي عند أمير الشعراء أحمد شوقي" قال: إن مسرحًا كبيرًا مثل مسرح الكوميدي فرانسيس في فرنسا، وهي عاصمة كبرى من عواصم الثقافة العالمية، لا يعرض إلا إنتاج الكلاسيكيين، أمثال موليير، وراسين، وكورْنِي، ولامارتين " ( 4) . "هامش ج ".
..وبالطبع يعرض التراث بلغته القديمة بشيءٍ من التبسيطِ والمعاصرةِ، فيربط هذا الجيل بمن سبقه وبلغته وتراثه
حتى عند الكتابة النقديّة عنها؛ لابد كما يقول الدكتور صلاح فضل:
"كما يقتضي بالإضافة إلى ذلك توسعًا في استخدام المصطلحات العلمية، وتوخيًّا لتبسيطها وتقريبها مما عهدناه، حتى لا يصطدم القارئ بمصطلح مستوحَش يتأبى على الفهم والقبول".(5)
أخيرًا نقول: ومن المعلوم من اللغة بالضرورة - وفقهًا - إن العربيّة لم تتوقف يومًا عن تطوير نفسها، وكذلك الشعر فهو متجدد دائمًا، فهل يمكن أن نقول إن العربيّة والشعر عند امرئ القيس؛ هي هي العربيّة عند المتنبي؟ أو إن العربيّة عند الحُطيئةِ هي هي العربيّة عند أبي تمام؟ بل هل العربيّة عند شوقى هي هي العربيّة عند البحتري أو ابن زيدون، اللذين عارضهما شوقي في السينيّة والنونيّة على التوالي؟
ونختم هذا المبحث بما يقول به الدكتور محمد عبد المطلب أيضًا: "الأدب هو النص اللغوي، ولا شيء سواه، واللغة هي العنصر الأساسي، هي الوسيلة والأداة، فإذا لم تكن هناك وسيلة لاستيعاب اللغة أصلًا، فلا إمكانيّة لاستيعاب الأدب ولا لاستيعاب النقد أيضًا". (6)
الهوامش والمراجع
( 1 ) الحوار اليوم 8/12/2012 م حوار مع فولف ديتريش فيشر أجراه الدكتور ظافر يوسف.
(2) دكتور عبد الحكم العلامي شاعر وناقد مصري معاصر.
هامش أ ، ب ، ج فقرات من دراسة لي بعنوان "حسن طلب والانعتاق من لذة اللغة نُشر في مجلة العربي الكويتيّة عدد مارس 2018 م جمادى الآخرة 1439 هـ رقم 712.
(3) الأستاذ الدكتور أحمد درويش أستاذ الأدب والنقد بكليّة دار العلوم .. جامعة القاهرة في حديثه للفضائيّة المصريّة الثانيّة برنامج بنصبح عليك ١٧مايو 2016 م.
(4) الأستاذ الدكتور أحمد درويش في محاضرته بنادي القصيم بالسعوديّة مايو 2013 م وقدم المحاضرة الدكتور حمد السويلم .
(5) الأستاذ الدكتور صلاح فضل في مقدمة كتابه "علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته" الطبعة الأولى 1998 م.
( 6) الأستاذ الدكتور محمد عبد المطلب في حديثه لقناة الشارقة الفضائيّة 3 يناير 2014 م.
بادرة طيبة تستحق التشجيع والثناء للقائمين عليها. أتمنى لكم التوفيق والسداد.