top of page

الشعر وصناعة المعنى/ الرسالة الثانية إلى من يتلمسون طريق الشعر

تاريخ التحديث: ١ نوفمبر ٢٠٢٣



رسائل في بريد الشعراء


كتبتُ إليك، يا رعاك الله، رسالتي الأولى عن المباني: بحور الشعر وسماتها، وما يشاكلها من طرائق القول، وهأنذا أتبِعها برسالة ثانية عن المعاني، فتقبَّلْها بلطفك وكرمك، كما تقبلت أختها من قبل.

إنّ ما بين اللفظ والمعنى، مثل الذي بين القشرة واللُّباب، يُستدلُّ بهما معًا على سلامة الفاكهة وصحّتها، وكما تحمي القشرةُ لبابها، تحمي الألفاظ معانيها.

أو قل هما مثلُّ الفتاة وهندامُها، يُستدلُّ بمظهرها عن مخبرها، والناس فيها بين أفّاك أثيم، وبرّ كريم، فمن أرادها لغاية شريفة، فلن يرضى تبذُّلها ولو كانت غايةً في الجمال! لأنّ في صلاحها راحةَ باله، وكفايةَ عياله، وحسنَ مآله، فبمقدار ما يُراد منها يُرادُ لها. أمّا من يدعو إلى حُريّتها - وحاشا أن تكون مستعبدةً - فذاك ليس بشاريها، وإن فعلَ فهو غيرُ مؤتمنٍ عليها، ولا على بناته منها.

أو قل هما كالرجلِ وأفكاره، فمتى وُصِم الرجل بالرّجعيّةِ في زماننا هذا، فاعلم أنّه صاحبُ قضيّة، لا يقول أنا مع الناس، بل يقول أنّا ما أؤمن به من فكر.

فالذي يقول لك سآخذ هذه البرتقالة لصفرة لونها، لا للبابها، فهو كاذب. ومن تحرّرتْ من هُويّتها ودينها وأخبرتك بأنها ستكون زوجة صالحة، وأمًّا فالحة، فهي كاذبة، وإذا رأيت الرجل يقول لك أنا مع الحقّ، ولكنّي لا أريد أن أشقّ عصا الطاعة، فلتعلم أن العصا التي يعنيها ملؤها التبر والذهب، وهذا ما يُضيع الثورات العظيمة، ويهوي بأصحابها في أتون من الغلّ.

هأنذا أدخل بك متاهة المعنى، عن دراية وقصد، لتقف هذه الوقفة، بين الرضا عن فكرة، والسخط على أخرى، بين الإعجاب من زاوية والنقد من ناحية أخرى، بين التنمُّر والتصالح مع ذاتك؛ لأنّ كلّ ذلك معًا، هو جوهر ما نحن بصدده.

عندما كانت المباني هي مدار حديثنا في الرسالة الأولى، لم نختلف حول أيّة نقطة أثرناها معًا؛ لأنّ الدرب ثمّةَ مهيع لن تتنكّبه لغموض معنًى، سيما وأننا تجاوزنا المصطلحات الرتيبة، الواجب إدراكها بالذوق لا بغيره، وأكثر أهل الملكات يقدرون النِّسب الزمانيّة قدرها، فيوفونها ولو زاحفوا. أما ههنا فالأمر جدُّ عسير؛ لأنّ تماثل اللفظ والمعنى، هو ما ينتج عنه الأسلوب، وأسلوب الرجل ذاته وفكره وهويّته، ومن كان نفسَه فقد أفلح.

ستجد من يختلف معك في المعنى لذات المعنى، ولتعلم حينها أنكما تختلفان في الفكر، والنهج، فلا تحاول إقناعه بوجهة نظرك، فذاك أمر محال تحققه. وستجد من يختلف معك لا لحاقِّ المعنى، وإنّما لأنّ لفظة أسلس من أختها، أو أخف حدّة، أو أدقّ في إصابة المعنى، ولتعلم حينها أنكما تمتاحان من فكر واحد، ورؤية واحدة، وهذا عينه هو الذي يجعل الشعر مدارس ومذاهب، والقول فيه أنثى وذكر، وليس الذكر كالأنثى.

وما اجتمع الفخر والحياء في قلبٍ إلا وجاء الفخر خديجًا.

فمن أراد الغزلَ والترويح عن النفس، هشّت نفسه إلى الطبيعة الغناء، بسحرها وجمالها، وخضرتها ورمالها، وهديلها الناعم، وضوئها الفاغم. فتخير لكلّ معنًى ألطف لفظٍ، وأخفّه على اللسان. فمن لا يعرف حبّ الطبيعة فهو بأسرار الحُبِّ أجهلُ، فمنها تدركُ المرأة كنهها، وبالطبيعة تقتدي، وبجمالها تتيه. وما بواعث الوجد والجوى إلا نسيم يهبُّ، أو حمامة تهدل، أو برق يلمع، أو صيّب يهمي؛ ولأجل ذلك تجد أهل البوادي أصدق عاطفة من أهل الحواضر، وغزلهم أرق من غزل غيرهم، وعليك بترسُّم نهجهم أول أمرك بالشعر، ودونك عبد الله بن الدمينة، ويزيد بن الطثريّة، والصمّة القشيري، فهم أحرّ لوعة من ابن أبي ربيعة، والأحوص، والعرجي، وأبي دهبل، وابن الرقيّات. على أنَّ جمال الشعر شيء، وصدق العاطفة شيء آخر. وخير الشعر ما صدقك فنًّا، وسحرتك تراكيبُه وانزياحاته وتناصاته، ووافق جمال لفظه حسن معناه.

ومن أراد الحزن سلك إليه مسلكًا بين جزالة الألفاظ وفخامتها، فتخيّر أنداها صوتًا، وأنقاها جرسا، حتى ترك الألفاظ والمعاني تتساقطان نفْسًا نفْسا. وما بزّت الخنساء غيرها من الشعراء إلا لأنّها تركت لنفسها حُرّية القول. والمرأة أشدّ حرارة من الرجل في الحزن، وذلك طبعها. فمتى انكسرت المرأة علت وبلغ شعرها العلياء، لذا فهي في الغزل والرثاء أعلى منزلة من الرجل. لذا تجد الرجل ميّال إلى المبالغة، يواري بها ما انكشف من سوأة حرفه، والمرأة أقدر على التذلُّلِ والمبالغة فيه. ومن طمحت نفسه إلى الفخر، فعليه بالبغي والفجور، فهما السلك الذي تنتظم عليه المعاني، وما اجتمع الفخر والحياء في قلبٍ إلا وجاء الفخر خديجًا. ولأجل ذا كان الفرزدق من أجود الشعراء فخرًا، بأهله، ونسبه، ومجد آبائه، وهو ما تحاماه جرير وقصّر دونه. وإذا نظرت إلى فخر المتنبي جميعه، فستجده فخرًا بنفسه، لا يكاد يتجاوز ذلك إلى غيره، وهو ما جعله يفتح بابًا جديدًا في الفخر العربيّ، قلّ نظيره في العصور السابقة.

ثم لك أن تعلم أنّ الشعر لا يُقاس بعظيم بواعثه، وإلا لكان كلّ ما قيل في الحقّ، أفضلَ مما قيل في الباطل، ففي ميزان النقد كيفيّة القول أرجحُ من ماهيّته، إذ لا يهم الناقدُ ماذا قلت، بقدر ما يهمّه كيف قلت. إذ الكيفيّة هي الأسلوب الجامع بين اللفظ، والمعنى، والنحو، والعروض، والإيقاع، والبلاغة، بينما ماذا قلت هو المعنى مجرّدًا.

فهل تشتري لبابًا بلا قشرةٍ؟ أم هل تعشق امرأة بلا هويّة؟ أم هل تغدو رجلًا بلا لسان؟ ليس هذا الذي نقوله الآن هو الشعر، ولكنّ الشعر لا يكون بغير كلّ ما ذكرنا.




Comments


bottom of page