يمثّل الروائي الليبي إبراهيم الكوني حالة استثنائيّة في تقديم تصوّر إبداعي طريف للكتابة الروائيّة، وهو يتميّز بفهم مخصوص لما يجب أن تكون عليه علاقة الرواية بالواقع. وقد سُئِلَ إبراهيم الكوني، إثر فوزه بالجائزة الاستثنائية الكبرى للثقافة والأدب التي تمنحها الدولة السويسرية، وإثر تصنيفه في السنة ذاتها، أي سنة خمس وألفين، ضمن قائمة "خمسون كاتباً للغد" التي أعدّتها مجلة "لير" الفرنسية المتخصّصة في الفكر والأدب، عن سرّ اهتمام الغرب المبالغ فيه بأدبه مقابل عزوف النقد العربي (خاصّة إلى حدود سنة ألفيْن) عن دراسة ما يكتبه من أعمال أدبيّة مُبهرة تُرجمت إلى أغلب لغات العالم ومنها "المجوس"، "التبر"، "السحرة" و"نزيف الحجر" وغيرها، فكان ردّ الكوني بأنّ النقاد في الغرب يعرفون ماذا يقرؤون وكيف يقرؤون، بينما في العالم العربي فإنّ ما يقع الاهتمام به هو الهامش والتعامل مع المبدع باعتباره شخصاً وليس كاتباً. وقال أيضاً، في الردّ نفسه، إنه قدّم للغرب ثقافة مختلفة تماماً عن ثقافتهم فجعلتهم ينبهرون بها (1). ولذلك كان لديه حرص، منذ بدء تجربته القصصية والروائية، على أن يقدّم ما هو مختلف عن تجارب الآخر (وتحديداً الآخر الغربي الذي ما يزال يملك مفاتيح الإمبريالية الثقافية رغم تهدّم بنيانها). والحقّ أنّ في ردّ الكوني تبنِّياً لأكثر من موقف من الذائقة الأدبيّة العربيّة، ومن نظريّة الرواية العربية، أو من النمط الروائي السائد، سواء في العالم العربي أم حتى في الغرب، وتحديداً أوروبا.
ويعتبر إبراهيم الكوني أنّ الواقع له أساطيره الخاصّة وله أسطوريُّهُ الخاص أيضاً، ومعنى ذلك أن الرواية لدى إبراهيم الكوني، وهي تعالج واقع قبائل الطوارق في الصحراء الكبرى، لا توظّف العجائبيّ من باب الترف الإبداعي، ولا تقوم بإسقاطه على خطابها أو إقحامه عنوة إلى جانب ما هو واقعي ومعقول، بل إنّها تتحوّل بدورها إلى أسطورة جديدة، لكنّها أسطورة أدبيّة تنطلق مما هو واقعي كي تعيد إنتاجه في شكل مفارق للعقل.
وفي روايات الكوني، ليس هنالك اختلاق للعجائبيّ، لأنه معطى واقعيّ قبل أن يكون تخييلياً، وهنا يقوم المكان بدور فاعل ووظيفيّ في جعل الواقع عجائبياً. والمكان الرئيس في روايات الكوني هو الصحراء التي يصفها بأنها "فضاء مفتوح وروح عارية لها قوانين أخرى، لذلك لا بدّ أن تكون هناك تقنية خاصة باستنطاق مبدأ الروح العاريّة، والأسطورة تهبّ هنا كنجدة، لأنها تقنية ضرورية لمن يحاول أن يعبّر عن المدى الصحراوي" (2). ومن سمات الصحراء، باعتبارها المكان الرئيس في كلّ روايات الكوني، أنها تحتفظ دوماً بأسرارها وغموضها، وفيها تتحوّل الأشياء المفارقة للعقل والطبيعة إلى أشياء مألوفة لدى شخصيّات الروايات، ولا تثير لديهم أيّ انفعال أو دهشة أو تردّد، لأنّ فكرهم الأسطوري المنغلق على ذاته يتقبّل، في حدود متفاوتة، كلّ تجلّيات العجائبيّ المتمثّلة، خاصة، في ظهور الأرواح، اختفاء الأشخاص في لمح البصر، التزاوج بين البشر والجنّ، الصعود إلى السماء، نُطق الرضيع منذ ولادته، العهود التي تمضى بين البشر والحيوان لتحقيق السلم بينهم، ممارسة السحر والشعوذة من أجل التحكم في الطبيعة ومصائر الأشخاص، ممارسة شعائر وطقوس تعكس تفكيراً أسطورياً وإيماناً بالغيب، مسخ الإنسان وتحويله إلى شكل حيوان، وغيرها من تجلّيات العجائبيّ. وهي جميعها ليست من اختلاق الكاتب، بل إنها جزء لا يتجزّأ من واقع الصحراء الكبرى حيث تقطن قبائل الطوارق مدافعةً عن نظرتها للوجود وأساطيرها وثقافتها الخاصة، وعن حقّ تقرير مصيرها.
وكلّ تلك الظواهر التي يوظّفها الكوني في أغلب رواياته تهيّئ أديماً عجائبيّاً يفتن المتقبّل ويؤثر فيه، وهو ما يدعونا إلى تصنيف رواياته ضمن ما نسمّيه "الواقعية الأسطوريّة" لأن العجائبيّ ليس مختلقاً، بل هو معطى واقعيّ، ومعادلة أساسية في التعامل مع الواقع. وحتى إذا بدا لمتقبّل الرواية أنّ بعض الأحداث أو الشخصيّات أو الأمكنة أو غيرها من مكوّنات الحكاية يصعب تفسيرها عقلياً أو قبولها منطقياً، أو أنّها مفارقة للعقل ولقوانين الطبيعة، وتبعث على التردّد إزاء قبولها، فإنّ تلك الأحداث والشخصيّات والأمكنة لا تحدث الانطباع نفسه لدى أبطال روايات الكوني (وهم عادة نماذج لإنسان الصحراء الكبرى)، لأنهم يتقبّلون كل ما يصعب تفسيره أو قبوله عقليّاً حيث يعطونه تفسيرهم الخاص، ويتعاملون معه بمنطق مغاير لمعايير العقل وحدود الطبيعة.
وفي اعتقادنا، لا تختلف الواقعيّة الأسطورية التي تسم مجمل روايات إبراهيم الكوني عن الواقعية السحرية التي ظهرت بأمريكا اللاتينية في منتصف القرن العشرين معبّرة عن روح تلك القارّة وواقعها وثقافتها وأساطيرها وأنماط التفكير فيها، ويبدو أن ذلك ما يؤسس له الكوني من خلال ابتداع أسلوبه الخاص في التعامل مع واقع الصحراء الكبرى روائيّاً.
ولعلّه بسبب كلّ ذلك، نجح هذا الروائي الليبي في تقديم ما هو مختلف للقرّاء. وبسبب ذلك، نجحت كتاباته الروائية في اختراق الذائقة الأدبية الأوروبية وحطّمت حواجز الإمبريالية الثقافية الغربية، شأنها في ذلك شأن كتابات تيّار الواقعيّة السحرية الذي ظهر بأمريكا اللاتينية. ويبدو أنّه لا غرابة في التشابه بين أدب إبراهيم الكوني وأدب كتّاب أمريكا اللاتينية، فكلاهما ينهل من فضاء جغرافي يحتفظ بأسراره وغموضه وعجائبيّته وأساطيره الخاصة وواقعه المعقّد.
وكما اعتبر أدباء أمريكا اللاتينية أنّ واقعهم ذو خصوصيّة ولا بدّ من التعبير عنه بخصوصيّة مماثلة، فإنّ إبراهيم الكوني يعتبر، بدوره، أنّ واقع "صحرائه الكبرى" ذو خصوصية، ولذلك فإنّ التعبير عنه يحتاج إلى قوانين جديدة لم يعهدها متلقي الرواية العربية. ومن هذا المنطلق فإنه، حين يكتب الرواية، يضطرّ إلى "أن يتصرّف في قوانين المنطق ليخلق منطقاً آخر يتجاوب مع عالم جديد انكسرت فيه نواميس المكان ونواميس الزمان" (3). ولكنّ هذا الفعل الذي يسمّيه الكوني "التصرّف في قوانين المنطق" يجب أن لا يُفهم على أنه إقحام للامعقول في عالم يسوده العقل، لأنّ القصد منه هو كيفية إيجاد التقنيات الكتابيّة المناسبة لتجنّب إضفاء معقولية على عالم لا معقول في الأصل. فالواقع الأسطوريّ لا يمكن تمثّله (أو تصويره) إلاّ بأسطرته أدبيّاً فيتحوّل الواقع إلى أسطورة أدبية تحمل في طيّاتها العجائبيّ وتبرزه بالشكل الذي كان عليه في الواقع ولكن وفق منطق جديد، وهو منطق الأسطورة الأدبية. ومن منظور إبراهيم الكوني، فإنّ "الرواية لا تصير رواية إذا لم تتكلم لغة الأسطورة، لأنّ غايتها أساساً هي خلق الأسطورة.. كما أنّ نية الروائي الأولى هي هدم الباديات من أساسها وبناء البديل خارج حدود المكان بمساعدة الأسطورة، أي خلق الأسطورة بواسطة الأسطورة" (4).
ونعود إلى المدخل الذي اخترناه لكتابة هذا المقال، وهو ردّ إبراهيم الكوني على السؤال المتعلّق بأسباب إقبال النقاد في الغرب على دراسة أدبه وحصوله هناك على أرفع الجوائز الأدبية مقابل شبه غيابه (إلى حدود سنة ألفيْن) عن المشهد النقدي والثقافي العربي، لنثير مسألة مهمة في قضية العجائبيّ، وهي الذوق الأدبي المحلّي السائد. فعدم قبول الذائقة الأدبية العربية بما يكتبه الكوني قبل أن يكتشفه الغرب ويقدّمه للعالم العربي الذي جاء منه، مردّه الأساسي، في نظرنا، هو طغيان الثقافة الواحدة والذائقة الواحدة، والتعوّد على النمط الواحد الذي يصعب الحياد عنه. وهو إلى جانب ذلك، رفضٌ للاختلاف الذي جُبلت عليه الثقافة العربية رغم ما يدّعيه بعض أهلها من انفتاح وقبول بالأصوات المختلفة أو الخارجة عن النمط السائد أو الرافضة للنظريات الأدبية والنقدية الجاهزة والمعلّبة والوافدة من ثقافة المركز (أوروبا). فالنمط السائد في كتابة الرواية العربية منذ أفول الصيغة الكلاسيكية في حدود الستينيّات من القرن العشرين، هو نمط الرواية الجديدة التي تتميّز بأنها تحطّم كلّ القواعد وترفض كل القيم والجماليات السائدة، فلا الشخصية شخصية، ولا الحدث حدث، ولا الحيّز حيّز، ولا الزمان زمان، ولا اللغة لغة. والمعلوم أنّ هذه الرواية الجديدة ابتدعها الغرب، وأنتجها باعتبارها شكلاً ثقافياً، ثمّ قام بتصديرها إلى بلدان الأطراف كي تقوم باستهلاكها ثقافياً بعد أن هيّأ لها الأرضية الملائمة والأديم الخارجي الذي ستتركّز عليه في جغرافيّتها الجديدة، فوجد هذا النمط الروائي المستجدّ هوى في نفوس مستهلكيه خاصة في العالم العربي، وشرعوا بالتوازي في تجريب أنماط أخرى لكتابة الرواية لا تخرج، في كلّ الحالات، عن نمط الرواية الجديدة وفق الملامح التي حددّها منشئوها الأصليون.
ويبدو أنّ المأزق الذي تردّت فيه الرواية العربية منذ عقود، والمتمثّل في عجزها عن فرض نفسها في خارطة الرواية العالمية وكسر حواجز تقبّلها في الثقافات الأخرى (رغم تحقيقها لبعض النجاحات محلّيا)، يعود بالأساس إلى افتقادها لهويّتها الخاصة بها، وتنكّرها في أغلب الأحيان للثقافة التي تنطلق منها وهي الثقافة العربية، أي أنها لم تنقل إلى الآخر المختلف (والموجود في جغرافيات أخرى) ما هو مميّز لثقافتها الوطنية أو القومية، ولم تستمد شكلها من قوانينها الخاصة، ولم تستمد قضاياها من حاجاتها الخاصة، فعادت إلى المركز (أوروبا) بالشكل الذي صُدّرت به، أمّا المضمون فقد أُفرغت منه بدعوى أنّ الرواية الجديدة هي "رواية شيئية"، وهي تتحدّث عن اللا شيء أو العدم والفراغ. ومن هذا المنطلق، في اعتقادنا، لم تجد الرواية الجديدة (العاكسة للعولمة الثقافية في أبرز مظاهرها)، بكل ما فيها من "إبادة" للواقع واختلاق للا منطق واللا معقول، مقروئيةً لدى الآخر المختلف عنّا جغرافيّا وثقافيّا والذي ينبهر عادة بما هو جديد وغير مألوف ومغاير للنمط السائد في بيئته. ولكنّ هذا الآخر المختلف، يجد نفسه أحياناً، دون أن يفكّك الحالة الثقافية التي تطرأ عليه فجأة، مقبلاً على نوع من الروايات التي يكتبها أدباء ينتمون ثقافياً وروحيّاً إلى العالم الثالث (أو إلى سوق استهلاك الثقافة المعولمة).
وكما أقبل الغرب الممثّل دوماً للمركزية الثقافية على قراءة رواية الواقعية السحرية التي ابتكرها أدباء أمريكا اللاتينية، وتحوّل رغماً عنه إلى مستهلك لها، وإلى متأثر بها إلى حدّ الهوس أحياناً رغم انتمائها إلى ثقافة مهمّشة ومتخلّفة من وجهة نظره، فإنه أقبل أيضاً على قراءة ما يكتبه إبراهيم الكوني من روايات تحتفظ بشكلها الخاص، وتبرز ثقافتها الخاصة، وتسعى إلى التعريف بها في كلّ جغرافيات العالم، وهي تطرح مشاغل المجتمع الذي تتناوله في القضايا التي تطرحها وهو مجتمع قبائل الطوارق المشتّتة على بلدان شمال إفريقيا المنفتحة جغرافيّا على الصحراء الكبرى، والمتنقلة في ارتحالها الدائم داخل فضاء هذه الصحراء، وهي قبائل تعيش اغتراباً حقيقيّاً عن العالم؛ بسبب الاضطهاد.
ويعني ذلك أنّ هذا النمط الذي يكتبه الكوني لم يتورّط في الانخراط ضمن ما يسمى بالرواية الجديدة، وهو لم يُعِدْ للغرب "بضاعة" أخذها منه، بل إنّ ما فعله هو أنه صدّر له شكلاً روائياً خاصاً بالثقافة التي جاء منها ووُلد من رحمها، وقدّم له قضايا مختلفة وثقافة حاملة لخصوصيتها ومهمومة بقضايا شعبها المهمّش والمبعَد عنوة من دائرة اهتمامات العالم. ولذلك قرأ الغرب لإبراهيم الكوني واهتمّ به اهتماماً معتبراً، ومنحه جوائزه متحدّياً الدوائر الرسمية الثقافية المتحكمة في عولمة الثقافة، والتي ترفض تبديل النمط السائد، وقد فعل ذلك مثلما فعله أيضاً مع عدد من أدباء أمريكا اللاتينية وبعض كُتّاب آسيا وإفريقيا السوداء، ممّن كتبوا في مجال الأدب ما بعد الكولونيالي، وكسروا حاجز الارتهان الثقافي للآخر المتفوّق صناعيّاً وتكنولوجيّاً وعسكريّاً واقتصاديّاً، وقاموا بالقضاء على أوهامه بتفوّقه الثقافي والفكري.
ومن خلال تحويل إبراهيم الكوني للأساطير المحلية لشعب الطوارق إلى أساطير أدبية تفوق الأولى قوّة على مستوى الخيال واللامعقولية، فإنه قد نجح في كتابة رواية عربية ذات منحى عجائبيّ، لها خصوصيتها الثقافية ولها شكلها الفني المميّز، وكلاهما قادر على التأثير في الآخر المختلف.
الهوامش والإحالات:
1) شهادة لإبراهيم الكوني ضمن حوار تلفزي أجراه معه الناقد والإعلامي أحمد علي الزين لفائدة قناة العربية (برنامج روافد)، وقد تمّ بثّ الحوار بتاريخ 22/ 04/ 2005، ويمكن الاطلاع على الحوار كاملا وموثّقا توثيقا كتابيّا (وتصويريّا أيضا) في الموقع الإلكتروني:
Rawafednet.blogspot.com
2) شهادة للكاتب اقتبسناها من الحوار الموثّق والمنشور في الموقع الإلكتروني:
Rawafednet.blogspot.com
3) إبراهيم الكوني، صحرائي الكبرى، المؤسسة العامة للثقافة، ليبيا، ط2، 2009، ص. 44
4) المرجع نفسه، ص. 122
Comments