في بدايات القرن الرابع عشر، آخر قرون العصور الوسطى في أوروبا، لم تكن إيطاليا التي نعرفها اليوم قد وجدت بعدُ، على أراضيها كانت كلُّ مدينةٍ مستقلّةً بنظامها الإداري، ولم تكن مدينة فلورنسا في إقليم توسكانا إلّا واحدةً من تلك المدن، يحكمها نظامٌ جمهوريٌّ وتتقاذفها صراعاتٌ سياسيّة وعسكريّة حامية بين تيّاراتٍ زادت تبايناتها في تلك الفترة الحرجة من التاريخ الأوروبيّ، الغليان الأخير قبل ما يسمّى بعصر النّهضة الذي ستُعرف فلورنسا لاحقاً بوصفها مهده الأوّل.
(دورانتي ديغلي أليغييري)، المعروف باسم دانتي أليغييري، والمولود عام 1265 لعائلة فلورنسيّة تعدُّ من طبقة جديدة من النبلاء (والده تاجر وعائلته منخرطة منذ زمن بالشأن السياسيّ المعقّد للمدينة) لم يكن بعيداً بالطبع عن هذه الصراعات والتحوّلات، ففلورنسا التي يشقُّها نهر أرنو إلى قسمين شهدت في تلك الفترة انشقاق أحد أحزابها "الغويلف" -وهو الحزب الذي انتمى إليه دانتي- إلى قسمين أيضاً، وبين الغويلف البيض والغويلف السود، وجد الشاعر المرهف نفسه أثناء سفارته في روما لتمثيل فلورنسا عند البابا عام 1302، محكوماً بالحرق حيّاً إن عاد إلى مدينته التي ظلَّ يحنُّ إليها في آثاره وأشعاره حتّى وفاته بالملاريا عام 1321 عن 56 عاماً على بعد 140 كلم منها، في منفاه الأخير مدينة "رافينّا" أكبر مدن إقليم رومانيا في إيطاليا حيث دفن غريباً، بعد أن أقام خلال رحلته الطويلة في عديد من المدن الإيطاليّة.
خلال رحلة التشرّد هذه كتب دانتي أهمَّ وأشهر أعماله، "الكوميديا" أو "الملهاة" وهي قصيدة ملحميّة تصفُ رحلةً مفترضةً يقوم بها الشاعر التوسكانيّ رفقة شاعره اللاتينيّ المفضّل "فيرجيل" صاحب الإنيادة بين "الجحيم" و"المطهر" في فصلين، وذلك بناءً على استدعاء حبيبة دانتي الراحلة "بياتريش"، التي ستحضر شخصيّاً وترافقه في الفصل الثالث إلى الفردوس الأعلى، لاحقاً أضاف الشاعر الإيطالي "بوكاشيو" كلمة "الإلهيّة" إلى عنوانها فأصبحت "الكوميديا الإلهية" تعبيراً عن إبهارها وإعجازها، قبل أن يصفها الشاعر الأرجنتيني بورخيس (1899-1986) بأفضل عملٍ أدبيٍّ على الإطلاق.
ولسنا هنا لنناقش وصف "بورخيس"، ولا لنضيف كثيراً على ما قيل وكتب واستلهم من "الكوميديا الإلهيّة" وصاحبها، فالثابت أنَّ أثر سِفر دانتي هذا في تأسيس ما يعرف اليوم بإيطاليا بل والتأسيس للنهضة الأوروبيّة ذاتها، لا يخفى على أحد، فهو اختار أن يكتب قصيدته الطويلة ذات المعاني البعيدة، بالعاميّة المحليّة التوسكانيّة بدلاً من اللاتينيّة التي كانت لغة الأدب والمخاطبات الرسميّة آنذاك، العاميّة التوسكانيّة باللهجة الفلورنسيّة، أصبحت نواة اللغة التي تعرف اليوم باللغة الإيطاليّة، دانتي ـ ببساطة ـ هو أبو اللغة الإيطاليّة، أوّل من نظّر لها وأسّس لجعلها لغةً ذات قواعد، بل دعا وسعى لوحدة إيطاليا والشعب الإيطالي كأمّة، وهو كذلك أحد آباء النهضة الكبار، حيث مجّد الفلسفة وقدّر العلم النّظريّ وانتقد الإكليروس والسّلطة السياسيّة بعنف داعيًا لفصل الكنيسة عن الدّولة، فلا عجب ـ والحال هذه ـ أن يعيش منفيّاً مضطهداً طوال النصف الثاني من حياته.
ضريحان لجثمان واحد
في الجانب الغربيّ من بازيليك سان فرانشيسكو إحدى أبرز كنائس "رافينّا" وقرب حديقةٍ غنّاء يقفُ نصبٌ تذكاريّ هو عبارةٌ عن بناء رخاميّ مقبّب داخله تابوت من خشب الجوز المحميّ بغطاء من الرصاص يرقد بداخله رفات أعظم شعراء إيطاليا، الرفاتُ الذي طالبت فلورنسا النادمة بنقله إليها مراراً وعلى مدى مئات الأعوام،
ولم توفّر في سبيل ذلك أنواع الوساطات، من الكرسيّ البابويّ إلى مايكل أنجلو، إلّا أنّ رافينّا رفضت بإصرار نقل الجثمان إلى المدينة التي نفته وهدّدت حياته، حتّى أنّ بابا روما ليو العاشر منح فلورنسا الإذن عام 1519 لنقل الجثمان إليها، وبالفعل حضر التابوت من رافينّا ليتبيّن عند وصوله إلى فلورنسا أنّه فارغ!
في عام 1865 واحتفالاً بمرور 600 عام على ولادة دانتي، كشفت فلورنسا عن ضريح رمزيٍّ لشاعرها في كنيسة سانتا كروتشي المعروفة بـ"معبد الأمجاد الإيطاليّة" لضمّها أضرحة كل من (مايكل أنجلو) و(روسيني) و(جاليليو) و(مكيافيللي) وغيرهم من ألمع أسماء إيطاليا في شتى المجالات، ضريح (دانتي) الرمزيّ عبارةٌ عن تابوت فارغ يعلوه تمثال جالس للشاعر متوّج بإكليل الغار، وإلى يمين التابوت سيدة واقفة تشير بيدها إلى الكلمات المحفورة أسفل التمثال: "مجّدوا هذا الشاعر" ترمز هذه السيّدة لإيطاليا، أما إلى يسار التابوت فتمثال لسيدة أخرى ترمز إلى فلورنسا، منحنية وبيدها إكليل الغار الذي كانت تودُّ أن تضعه على رأسه حياً، وهي تبكي إلى الأبد جراء ما ارتكبت بحق ابنها العبقري.
في ساحة الكنيسة التي تعدُّ من أشهر ساحات المدينة نصب آخر لدانتي كُشف عنه في نفس السنة، وهو عمل للنحات الإيطالي إنريكو باتزي (1818-1899).
يصور التمثال المصنوع من الرُّخام الأبيض (دانتي أليغييري) واقفاً بتعبير غاضب، يحمل كوميدياه بيده اليمنى بينما يقف عند قدميه من الجهة اليسرى نسرٌ بأجنحةٍ نصف مغلقة، قاعدة التمثال من الرُّخام الأحمر نقش عليها إهداء مؤرخ عام 1865 وعلى زواياها أربعة أسود مارزوشي فلورنسيّة تحمل بمخالبها دروعاً نُقشت عليها عناوين أعمال أخرى للشاعر.
البيت، الكنيسة، الجسر ومعالم أخرى
في أحد شوارع المدينة القديمة الضيّقة المرصوفة بالحجارة الداكنة، يقف بيتٌ من 3 طوابق بني على طراز أبنية القرون الوسطى، وعلى بابه الخشبي لوحة كُتِبَ عليها: "متحف بيت دانتي".
للأسف، بيت (دانتي) الحقيقيّ هدم في وقتٍ ما، لكن هذا البيت يقع في نفس الحيّ الذي كان يسكنه صاحب "الحياة الجديدة" قبل نفيه، وقد تم تحويله إلى متحفٍ تفاعليّ يعرض الوثائق والمخطوطات واللوحات والمنحوتات المتعلّقة بدانتي، إضافة إلى تفسيرات لحياته وأعماله وبيئة فلورنسا الثقافية والاجتماعية والسياسية في زمنه.
غير بعيدٍ عن المنزل، وفي قلب فلورنسا، تقع كنيسة (سانتا مارغريتا دي سيرشي) وهي كنيسة أثريّة صغيرة قليلة الزخرف، لكنها شهدت حدثين مهمين في حياة (دانتي ألغييري)، أولهما زواجه في عمر 12 عاماً من (جيما دوناتي) زوجته الوحيدة وأم أولاده الأربعة، وثانيهما احتضانه لجثمان حبيبته الأزليّة وملهمته في أبرز أعماله (بياتريش بورتيناري)، من المرجّح أيضاً أنَّ لقاءه الأوّل ببياتريش كان في هذه الكنيسة، تحديدًا في حفل أقامته عائلة الفتاة وحضره الصبي (دورانتي) الذي لم يكن عمره يتجاوز 9 سنوات حين رأى الفتاة التي تصغره بعام واحد وأغرم بها أشدَّ الغرام، لكنَّ فروقات طبقيّة حالت بينهما على ما يبدو فتزوّج كل منهما شريكاً آخر، وكان أن تكرّرت لقاءاتهما القصيرة الصامتة مرّات قليلة، هذا ما يأخذنا إلى معلم آخر من معالم فلورنسا هو جسر سانتا ترينيتا الأثريّ فوق نهر أرنو، الجسر الذي شهد لقاءً شهيراً وصفه (دانتي) نفسه في "الحياة الجديدة"، وصوّره الرسام الإنجليزي هنري هوليداي (1839-1927) في أشهر لوحاته بعنوان "دانتي يلتقي بياتريش على جسر سانتا ترينيتا".
على العموم، لم يتسنَّ لهذه اللقاءات أن تستمر، لا بسبب نفي (دانتي) من فلورنسا عام 1302، بل قبلها بأعوام بسبب وفاة بياتريش المفاجئة عن 25 ربيعاً، وهو الحدث المأساوي الذي هزَّ (دانتي) ودفعه لكتابة اثنين من أبرز أعماله: "الحياة الجديدة" الذي عبر فيه عن حبه الكوني لبياتريش، و"الكوميديا الإلهية" طبعًا.
وبعدُ، فإنّنا في هذه المساحة الضيّقة أشرنا إلى معالم ماديّةٍ من أثر دانتي، وأمّا أثره الحيُّ الذي تجاوز إيطاليا وأوروبا إلى العالم فأكبر وأخفى من أن نحيط به هنا الآن، يكفي العدد الهائل من الأعمال الفنيّة التي استوحيت من "الكوميديا الإلهية" في الشعر والرواية والرسم والموسيقى والمسرح والسينما، من "بوكاشيو" إلى "صمويل بيكيت" و"لارس فون تريير"، تجاوز (دانتي) صورته كنبيلٍ معارضٍ منفيّ ووحيد، ليصبح ناطقاً عالميّاً أبدياً باسم الجمال والحقيقة.
Comments