top of page

أشكال الكتابة الشعرية

تاريخ التحديث: ١ نوفمبر ٢٠٢٣


بشيء من التحليل، بل من الدربةِ في التحليل؛ قد نتوصل إلى أشكالٍ موجودة في الكتابة الشعرية، لا نقصد بها الشكل الخليلي، ولا شكل السطر التفعيلي، ولا شكل سطر ما يُسمَّى بقصيدة النثر، بل ولا حتى أشكالًا ظاهريّة؛ تستطيع أنت أن تراها بعينك، ولا أن تلمسَهَا بيدك، وهي أشكال باطنة يختصّ بها الشاعر عن قصد ودربة وعن غير قصد ودُربةٍ.


أما الشكل الأول:

فهو ما أسميه (الطَّردُ المتوالي)، وهو ببساطة شديدة أن يعتمد الشاعر طردَ البيتِ السابق، أو الصورةِ السابقةِ، بشيء بعدها على شكل متوالٍ وعلى قدرٍ أعلى من الدهشة، فيُنْسي المتلقيَ ما سبق، ويلهث المتلقي خلف الشاعر، من صورة لصورة ومن دهشة لدهشة، ومن متعة موسيقيّة ولفظيَّةٍ لأخرى، وفي هذا الشكل تتربع قصيدة المسابقات، أو ما يمكن أن نسميَه قصائدَ المؤتمراتِ والمحافلِ والمناسبات الجماهيريّةِ، ومنها ما قد يكون جيدًا ومنطقيًّا وعصريًّا وذا قيمة، على أنّك ربما حينما تعود إلى بيتك وتفكر في بعض هذه القصائد التي انفعلتَ بها ومعها، ربما لا تجدها شيئًا حسب تعبير "عباس محمود العقاد".

فهي ـ أي هذه القصيدة ـ إبداع وقتيّ، وانفعال آنيٌّ، ربما يكون أقرب إلى الضوء الذي يتجلى ثم يختفي، فتحبّه أول مرّة، ثم تملُّه إذا تكرر، ولا يستطيع أن يدهشكَ مرّة أخرى إذا أعاد دورته.


وأمّا الشكل الثاني:


فهو ما أسميه (الطرد الانتقائي)، وفيه يعتمد الشاعرُ تقسيم نصِّه إلى قطاعاتٍ، وربما إلى جُزِرٍ متصلةٍ بخيط دقيق، أو بلا خيط مرئيٍّ، وربما منفصلةٍ، وهو تمامًا مثل هذا الصاعد على سُلّمٍ غيرِ ثابتٍ، يحتاج مثلًا لعشرِ قطعٍ من الأحجار، فيحملها على ظهره، وكلما ارتفع لأعلى يكون قد استهلك قطعةً فقطعة، وهكذا حتى يضع آخر قطعةٍ من على ظهره، وهو ينتقي لكلّ خطوة قطعة مناسبة قد تختلف عن غيرها، والمحصلة هي الوصول السليم والآمن غالبًا.




وأما الشكل الثالث:


فنسميه (الطردُ المتوازي)، وفيه يعتمد الشاعر أدواتٍ من رحلته، لا يأتي معه بعصا، ولا سلَّمٍ، ولا قطعٍ حجريّة يصعدُ بها أو عليها، ولا يحمل معه زاده، فهو يبدأ رحلته باحثًا عن شيءٍ، أو قاصدًا الوصولَ إلى نقطةٍ ما، فإن أحسّ بالعطشِ ووجد بئرًا شرب، وإلّا نوى الصيام، وإن أحسّ بالبرد ووجد حطبًا وحجرين يقدح بهما النار فعل، وإلّا انكمش على نفسه ليتفادى البرد، وإن أحسّ بالجوع ووجد طائرًا أو سمكة أو برتقالة أو غيرها أكل، وإلا ربط بطنه بحجَر، وكلّ هذا يطرده من داخله مرة واحدة وبالتوازي، حتى إذا وصل إلى وجهتهِ، رأيتَ أنت فيما يقوله كلّ هذا الذي حدث له صراحة أو ضمنًا داخل نصه، وقد أحسست بمعاناته، وهو لا يشغل باله كثيرًا أن يعرض بضاعته بشكل موسيقيّ، ولا حتى بلُغة فخمة أو معجميّة، وإن كان بإمكانه أن يفعل "ولا يضيره هذا" ويا حبذا لو فعل.


التطبيق:

ولنتوقف الآن عند التطبيق الذي نأملُ أن ننجحَ ولو في بعضه عرضًا وتحليلًا وحُجَّةً.

أما القسم الأول وهو الطرد المتوالي:

فهذا ما يمثله جيل المحافظين على نمط القصيدة العربيّة القديم والمتعارف عليه، وهم الشعراء العموديّون والخليليّون، وله أسس ثابتة يقوم عليها ومنها:

الغنائيّة، التطريب، الموسيقي، جزالة اللفظة، حضور المعجم، الاتكاء على جماليّات البلاغة العربيّة من بديع، ومقابلة، وتورية، ومجاز، وتشبيه، وكناية، واستعارة، وجناس، وطباق، وغير ذلك.

الملكات الصوتيّة عند الشاعر "وهذا بالطبع حين نتحول من القراءة إلى الاستماع المباشر".

الوصف، الخَطابيّة المباشرة غالبًا، الاهتمام الكبير بالصورة، التَّناص وغير ذلك.

"وقد تشترك بعض هذه العناصرِ مع بعض الأشكال الأخرى".

والشعراء الذين يمثلون هذا النوع، إمّا شعراءُ ناسخون، وإمّا شعراء ماجنون، وإمّا شعراء دينيّون قَدَاسيّون أو قوميُّونَ، أو قَبليُّون، وإمّا شعراء عاطفيّون، وإما شعراء ناظمون، وإمَّا شعراءُ فلاسفةٌ أو متصوّفون، وإمّا شعراء مجذوبون، وإما شعراء. وفي كل هذه التسميات الكثيرة السابقة لا يقف إلا بعضُهم شعراء مهمين، وأولهم الذين قلت عنهم: وإمّا شعراءُ ولم أزدْ.

على أنَّ كلَّ من يندرجُ تحت هذه المسمياتِ ــ التي قد تكون مقبولةً من البعض ومرفوضةً من البعض الآخر ــ لهم ولشعرهم وظائفُ ربما تكون في غايةِ الأهميّة إنسانيًّا ومجتمعيًّا، وهم يندرجونَ تحت ما يمكن تسميته "وظيفة الشعر المباشرة".

هذا وإنَّ الشعراء الناظمين، فهؤلاء لم يدركوا الشعرَ ولم يدركهم الشعرُ، ولا حتى وصلوا لمرتبة الشعر التعليمي أو المدرسي، كما جاء مثلًا في ألفية ابن مالك والتي مطلعها:

كلامنا لفظٌ مفيدٌ كاستقمْ * واسمٌ وفعلٌ ثمَّ حرفٌ الكلمْ

واحِدهُ كلمة والقول عمْ * وكِلْمة بها كلامٌ قد يُؤمْ

وهكذا..

أو كما جاء بالتحفة العنبرية:

للنون إن تسكنْ وللتنوينِ * أربعُ أحكــــام فَخُذْ تبْييني

فالأولُ الإظهارُ قبلَ أحرفِ * للحلق ستٌّ رُتِّبتْ فلتعرفِ

همزٌ فَهـَـــــاءٌ ثمَّ عينٌ حاءُ * مُهْـمَلتانِ ثمَّ غينٌ خـــــاءُ


وبعيدًا عن أهميّةِ هذه المؤلفات، وقيمتها التي لا شكّ فيها، إلا أنّها ليست شعرًا ولا ينبغي لها أن تكون.

ومن عجبٍ أن هذه الطبقة من الناظمين، هم الذين يتصدرون سَدَّ المنافذ، منحازين إلى شكل العمود أيًّا كان، ومحاربينَ أيَّةَ مدرسةٍ، أو محاولةٍ جديدةٍ لتجاوز هذا الشكل، وتطويره، مُنَصِّبينَ أنفسَهم وكلاءَه، والمتحدثين الرسميّين باسمه، وهو إن كان عرف الكلامَ لكانَ مُكلِّمهم متنصلًا منهم، ومن نسبة أنفسهم إليهِ، فهم ليسوا صُلبه، ولم يكنُ ماؤهم في ظهره أبدًا، بل هم جيناتٌ مشوَّهة، تدسُّ أنفها فيه مُماحِكةً مُتَمَسِّحةً به، وهو ينفر منهم، وهم الذين يختلقونَ مشكلاتٍ وصراعاتٍ وهميةً غيرَ متكافئة مع هؤلاء الذين قفزوا بالقصيدة العربية عمودًا وتفعيلةً، إلى أبعدِ مكان ليس قريبًا منهم مسافة رميةِ حَجَرٍ بل هو أبعدُ بكثير.

ولكي نوضح البُعدَ الشاسعَ بين النظمِ والسجع شعرًا ونثرًا من ناحية، وبين الصورةِ والجودةِ والخلقِ في الشعر العربيّ من ناحية أخرى؛ لا أجد غضاضةً في أن أستعين بموقف وإن كان نثرًا لأدلل على البون الشاسع.

يقول الرجل وهو في طريق البادية مسافرًا: "أمطرت السماءُ كأنَّها أفواهُ القِربْ" في صورة رائعةٍ، تعطيك الجمال اللفظي، وجمالَ الصورة، وتجعلك تلمس هذا الماءَ بيدك، وربما جريتَ لتختبئ من هذا الماء الكثيفِ الذي ينزل من السماء!! ثم يدمِّر الرجلُ هذا الجمالَ كلَّه ويلقي بهذه الصورةِ الرائعةِ في مهب الريح، حينما يكمل فيقول: "فوقع الدلو من رجلٍ كان يأكلُ العنبْ".. هكذا لكي يأتي بحرف الباء سجعًا في نهاية كل جملة.

وهذا ما نجده نظمًا أيضًا في قوافٍ عقيمةٍ ومتحجرةٍ ومنبتّةٍ عن سياق البيت؛ وكأن ناظمها أقصى أمانيه أن يَقُصَّ ويَلْصِقَ هذا الحرف - الرويّ - في آخر كل بيت.


ومن عجبٍ أن ينشئ أحدهم برنامجًا إلكترونيًّا على الحاسوب ويسميه قاموس القوافي ظانًّا أنّه يقدم فائدة للشعراء وهو لا يدري أنه يبرمجهم مثل الآلة؛ بل ويحنطهم أحياءً، ويقتل أيّ أمل للتطوير والخلق داخل أدمِغَتهم، ويجفف قريحتهم.


ولعلني أتذكر قول العقاد:

والشعرُ من نفسِ الرحمنِ مقتبسُ * والشاعرُ الفذُّ بين الناس رحمنُ


فأعود أتساءل، وهل بعد هذا الجمال في تعريف الشعر؟!؛ ينظم العقاد ما لا يمكن أن يكون شعرًا كما قال في رثاء كلبه بيجو:

حزنًا على بيجو تفيض الدموعْ * حزنًا على بيجو تثور الضلوعْ

حزنًا عليه جهدَ ما أستطيعْ * وإنّ حزنًا بعد ذاك الوَلوع

والله - يا بيجو- لحزن وجيعْ


وقد وقع كثيرون في شركِ النظم الجافِ، ومنهم شعراء كبار أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي حينما قال:

لكمْ في الخطِّ سيارة * حديث الجار والجارة

أوفَر لانــــــد ينبيك * بها القنصل طمـــارة

كسيـــــــارة شارلوت * على السوَّاقِ جبَّــارة

وأنا بالطبع لا أقول هذا لأتخذَه تكأة ولا منصةَ هجومٍ على شوقي والعقاد "فإن من الأشياء الطريفة حقًّا في كتاب الأغاني لأبي الفرجِ الأصفهاني، أن صاحبَه لم يكنْ يُعنى بتتبعِ سقطاتِ شاعر، فقد كان يعترف بأن الفنان الممتاز يجيدُ في موضعٍ ولا يجيدُ في آخر" (1)

لكن ما قصدته هو أن أوضح للقارئ الموقر هذا البون الشاسع بين الشعر والنظم، فإن كان واحد مثل أمير الشعراء أحمد شوقي نحسب عليه بضعة أبيات من شعره نظمًا، فقد لا نستطيع أن نحسب لشاعر آخر بضعة أبياتٍ من نظمِه شعرًا.

وهكذا، وربما يقول قائل: هذه فكاهة، وأنا أقول: أجل فكاهة، لكن كان يمكن أن تكتبَ شعرًا لا نظمًا، مهما اختلف موضوعها، ولعل الفارق هنا بين الشعر وبين النظم بدا جليًّا، واتضح البون الشاسع بين كليهما.

وحتى الفكاهة في الشعر قد تتحول إلى موقف، وإلى نصٍّ تستطيع أن تسقط عليه قضايا فيقوم بها، انظر ما حدث لـ (أبو دلامة):


يُروى أن أبا دلامة شرب خمرًا ذات ليلة؛ فجيءَ به إلى المهدي، فأمر بأن يحبس في بيت الدجاج، فلما مضى جزء من الليل صحا أبو دلامة من سُكرِه ورأى نفسَه بين الدجاجِ، فصاحَ: يا صاحبَ البيت

فأجابه السجان قائلًا: ما لك يا عدو الله؟ قال له: ويلك، من أدخلني مع الدجاج؟

قال: أعمالك الخبيثة.. أتِيَ بك إلى أمير المؤمنين، وأنت سكران؛ فأمر بتمزيق طيلسانك الذي كان قد أهداه إليك وبحبسكَ مع الدجاج.

قال أبو دلامة: ويلك! أو تقدر على أن توقد سراجًا وتجيئني بدواة وورق؟

فأتاه بدواة وورق. فكتب إلى المهدي أبياتًا يقول فيها:

أمير المؤمنين فدتــــــك نفسي * علام حبستني وخرقت سـاجي

أُقادُ إلى السجون بغير ذنـــــب * كأني بعض عمال الخــــراج

ولو معهم حُبست لهان وجدي * ولكني حبست مع الدجــــاج

يا ترى من هم الدجاج الذين كان يعنيهم وحُبِس معهم؟، ولماذا زَجَّ بعمال الخراج فيما قال؟!


ومرة أخرى أنا لست ضد الفكاهة، لكن أحاول أن أضع خيطًا ولو دقيقًا جدًّا بين الشعر وبين النظم.


وأما الشكل الثالث:

ولعلي قد أخالف قواعد البحثِ المتعارفَ عليها، بأن أعرض لـ (ثالثًا) قبل (ثانيًا)، ولكن ربما يصفح عني الأكاديميون في هذه المخالفة، حينما ننتهي من كامل العرض.

الطرد المتوازي نوع من أنواع الكتابة الشعرية، أو الإبداع، يسهل جدًّا أن تجده عند الشعراءِ الذين يسمون أنفسهم أو يسميهم غيرُهم شعراءَ حداثيين، وهنا قد تجد هذا الشاعر الحداثيَ شاعرًا خليليًّا أو تفعيليًّا أو ما يسمى بشاعر قصيدة النثر، وهذا ليس مرتبطًا بالمدرسة الشعريّة فحسب؛ ولكنه ليس مرتبطًا أيضًا بحقبة زمنية معينة، ويقوم على مجموعة من القواعدِ والأسسِ كلها أو بعضها، أو كلها وغيرها ومنها:

الإيثار ــ أي إيثار كلمةٍ على كلمة، التحوُّل، التشظِّي النفسي، التقبّل للأذواق الحديثة، اللامنطق أحيانًا، الفلسفة الكامنة التي لا تكاد تبين، الشك، الدراما، تعدد الأصوات في القصيدة الواحدة، القلق، التكثيف، تعدد الإيقاعات، تعدد الثقافات، المعنى المؤجل، الاحتمالات، المراوغة، اللامُباشرة، الخط الزمني.

وربما شملت كلَّ أو بعض تعريفات "سوزان برنار" التي عرّفت بها قصيدة النثر بقولها:

"هي قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور، خلق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كلّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية"


وقد تتعجب مني أشد العجب حينما أضع لك نموذجًا من هذا الصنف، متكئًا على شعر ما قبل الإسلام والذي يسميه بعضهم "الشعر الجاهلي" هيا معي نذهب إلى عنترة يقول:

ولقد ذكرتك والرِّماحُ نواهلٌ مني * وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي

فودِدْتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها * لمعتْ كبارقِ ثغركِ المتبسم

ثم ينتقل إلى جواده الأدهم فيقول:

ولقد ذكرتك والرِّماح كأنها * أشطانُ بئرٍ في لَبان الأدهمِ

فازْوَرَّ من وقعِ القنا بلبانه * وشكا إليّ بعبرة وتَحَمحُمِ

لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى * ولكانَ لو علمَ الكلامَ مُكَلِّمي

وينتقل نقلة أخرى:

ولقدْ خشيتُ بأن أموتَ ولم تدُرْ * للحربِ دائرةٌ على ابنيْ ضمْضَم

الشَّاتميْ عرضي ولم أشتمهما * والنَّاذِرَيْنِ إذا لم ألقهما دمي


هنا تجد عنترة ممسكًا بالحالة ولا تتفلت من يده أبدًا، هو هذا الفارس المقاتل الذي قد يكون بعد لحظة أثرًا بعد عين، فيمر شريط حياته أمام عينه بتقنية (الفلاش باك) فيتذكر من لمعان السيف أسنان حبيبته، وينظر إلى جواده الذي بدت على صدره الرماح كأنّها الحبال التي تتدلى إلى البئر في تصوير أو صورة يتفرد بها عنترة على مدار تاريخ الشعر العربيّ كله، فرغم أن الرماح التي مقدمتها معدنية ويدها خشب؛ إلا أنّها تبدو في صدر جواده الأدهم حبالًا لينة لا تعوقه عن الحركة، ثم تأخذه القصيدة الحالة إلى هذين اللذين خاضا في عرضه وشتماه ولم يشتمهما، فربما يموت قبل أن يثأر لنفسه، هنا تجد الحالة والخيط الزمني والدراما والصورة والتكثيف والقلق وتعدد الإيقاع والتشظي، والتحول، والمعنى المؤجل، وغيره بما يضعك أمام نص يستطيع الوقوف طويلًا جدًّا في وجه الزمن والآليات واللغة والإيقاع.


والأمثلة ماثلة وكثيرة في شعر مجموعة من الشعراء القدامى والمعاصرين، يسهل جدًّا أن تضع أيها القارئ الكريم يدك عليها من دون عناء ولا مشقة.

لكن يجدر بنا أن ندللَ على هذا القسم بما يقوله محمد محمد الشهاوي عن القصيدة:

للقصيدة أن ترفضَا

كلَّ ما سوف يأتي.. وما قد مضى

من ثباتٍ يحاول أن يفْرِضَا

نَهْجَهُ

والطقوسَ/ المكيدةْ

للقصيدةِ ألا تكون سوى النَّهْرِ

      ذاك الذي ليس ينزِلُه أحدٌ مرَّتينْ

للقصيدة ألا تكونَ سوى موقفٍ

ولسيِّديَ الشِّعرِ ألا يكونَ سوى "الخارجيِّ"

على كلِّ ما بَيْنَ بينْ


الشكل الثاني:


وأمّا الشكل الثاني، وهذا هو القسم الثاني الذي قفزتُ عليه إلى القسم الثالث على غير ما اعتاد البحث المتعارف عليه؛لأقول إنّ هذا القسم هو بين بين كما يقول الشهاوي، فهو هذا الصنف من الشعر الذي يأخذ من القسم الأول وهو "الطرد المتوالي"، ومن القسم الثالث وهو "الطرد الانتقائي" فيحمل سيماء كل منهما، ولكن بمقدار، ويمسك الشاعر بلجام النص فلا يتفلت منه، ولعل أبرز من فعل هذا عبد المعطي حجازي وحسن طلب، وإن اختلف تناول كل منهما عن الآخر، ولتنظر معي إلى حسن طلب وهو يقول في قصيدته الأشهر: "الفسيفساء"

يا مرسلةً غزلانك في قمحي في كرمي / تاركة خيلك

ما كان أضل خروجك لي تحت الدوح / وكان أضلك

كنت مصوبة نبلك

لكأنك كنت حساما / والعشق استلك

بل لكأنك أنت المنذورة لي منذ زمانين

فأي دليل دلك؟ / هل شجر الليلك؟ / مهلك

هنا يضع حسن طلب كل قطع الأحجار التي يحملها فوق ظهره، قطعة قطعة، في متوالية تطرد كل منها سابقتها، ليعود فيقف عليها جميعًا، وقد سيطر عليها لغويًّا فيفضي كلٌّ للآخر، ولا تتفلت منه القصيدة، ولا يشوهها نتوء أو ينسكب منها الماء فلا ثقوب يتفلت منها.

ثم المثال الآخر في قصيدة "مرثية لاعب سيرك" لأحمد عبد المعطي حجازي:

في العالم المملوءِ أخطاءَ / مطالبٌ وحدكَ ألا تخطِئا

لأن جسمكَ النحيلْ / لو مَرة أسرعَ أو أبطأَ

هوى، وغطى الأرضَ أشلاءَ

في أيِّ ليلةٍ ترى يقبع ذلك الخطأ

وهنا دائما تهمس اللغة، وتتأخر القافية أو تتكرر، لكن ليس هندسيًا فلا تكون تكرارًا مملًّا لموسيقى الشعر، بل تأتي في مكانها الصحيح وتتمة للصورة والفقرة التي تخدم ما قبلها وما بعدها، ولعلّ هذا الشكل هو الأقرب إلى أذن المتلقي وإلى قلبه في آنٍ، وربما هذه اللغة أيضًا هي الأقرب إلى المسرح الشعريّ، ويا طالما كنا ننادي ومجموعة من المخلصين إلى الاتجاه للقصيدة الدراميّة، التي تحمل داخلها كل مقومات الفنّ السرديّ والشعريّ، منمقة بالصورة والدفقة الشعوريّة غير المنبتة عن الحال الممتدة.

وأنت تستطيع أن تطبق الأشكال الثلاثة على نماذج من الشعر في كل عصوره، سواء عصر ما قبل الإسلام (أو ما يسمى الشعر الجاهلي) وما يليه من عصور: صدر الإسلام، والأموي، والعباسي، وصولًا للعصر الحديث (الكلاسيكية والتفعيلة وما يسمى بقصيدة النثر)، أقول كلّ عصور الشعر العربيّ دون التقيّد بمدارس الشعر العربي، فالقاعدة تستطيع فعل ذلك، وعليك أن تجرب.


ثقافة الناقد (النقد إبداعٌ موازٍ):

إنَّ من أهمِّ أركانِ العمليّةِ الإبداعيّةِ النقديّةِ، بل من أولوياتها؛ ثقافة الناقد، التي يجب في كلّ حالاتها أن تتفوق على ثقافة الكاتب "قاصًّا وروائيًّا وشاعرًا وناثرًا" أو أن تكون بمحاذاتها، ولا يكون المبدع الناقد ذَا تأثير وقيمة على حالته إلا بمقدار ما يستطيع أن يكتب نصًّا موازيًا، نصٌ موازٍ لا في عمليّة الخلق والولادة؛ ولكنْ نص موازِ في عمليّة استقبال هذا المخلوق وهذا المولود، فالكاتب عليه أن ينجب بناته وفقط، وعلى الناقد أن يتعهد هذه البنات، وأن يقدم لها من العناصر ما تحتاجه لكي تشب، وتمضي على ساقين راكزتين، وربما لكي تطير بجناحين حول صدر يحمل قلبين ورئتين لا واحدًا ولا واحدة، قلب المبدع الأول ورئته، وهو الكاتب، وقلب المبدع الثاني ورئته، وهو الناقد.


على أن يكون المبدع الثاني متجردًا من الهوى والهُويّة، والأيدلوجيّة السياسيّة، والدينيّة، والاجتماعيّة، والعرقيّة، وألا يتأثر بجنس الكاتب، وأن يتمتع بنَفْسٍ لا تحركها أفعالُ الغيرة غير المحمودة، وأن يتجرأ، ويجازف، ويجتهد، وألا يكون فكره مكررًا ولا مقيدًا ولا منبتًّا.


الناقدُ قاضٍ، لا يخضع إلا لضميره، ولا يعتدُّ إلا بأوراق القضية، ويجب هنا أن يكونَ عكسَ قاضي المحاكم المدنيّة والدينيّة والعسكريّة؛ فلا يعمل بروح القانون؛ ولا تأخذه بالكاتب شفقةٌ ولا رحمةٌ، وعليه أن يعاقب بأشد عقوبة نصَّ عليها دستور النقد، لكن عليه أن ينصف ما كان للإنصاف محل وحق؛ وهذه هي الفريضة الغائبة التي لا يؤديها كثير من المشتغلين بالنقد الأدبي في العالم العربي؛ ولعلهم!


Comments


bottom of page